الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)} {الأهلة}: جمع هلال، وهو مقيس في فعال المضعف، نحو: عنان وأعنة، وشذ فيه فعل قالوا: عنن في: عنان، وحجج في حجاج. والهلال، ذكر صاحب (كتاب شجر الدر) في اللغة: أنه مشترك بين هلال السماء وحديدة كالهلال بيد الصائد يعرقب بها الحمار الوحشي، وذؤابة النعل، وقطعة من الغبار، وما أطاق من اللحم بظفر الأصبع، وقطعة من رحى، وسلخ الحية، ومقاولة الأجير على الشهور، والمباراة في رقة النسج، والمباراة في التهليل. وجمع هلة وهي المفرجة، والثعبان، وبقية الماء في الحوض. انتهى ما ذكره ملخصاً. ويسمى الذي في السماء هلالاً لليلتين، وقيل: لثلاث. وقال أبو الهيثم: لليلتين من أوله وليلتين من آخره. وما بين ذلك يسمى قمراً. وقال الأصمعي: يسمي هلال إلى أن يحجر، وتحجيره أن يستدير له كالخيط الرقيق، وقيل: يسمى بذلك إلى أن يبهر ضوءه سواد الليل، وذلك إنما يكون في سبع. قالوا: وسمي هلالاً لارتفاع الأصوات عند رؤيته من قولهم: استهل الصبي، والإهلال بالحج، وهو رفع الصوت بالتلبية، أو من رفع الصوت بالتهليل عند رؤيته. وقد يطلق الهلال على الشهر كما يطلق الشهر على الهلال، ويقال: أهل الهلال، واستهل وأهللنا واستهللناه، هذا قول عامة أهل اللغة. وقال شمر: يقال استهل الهلال أيضاً يعني مبنياً للفاعل وهو الهلال، وشهر مستهل وأنشد: وشهر مستهل بعد شهر *** وحول بعده حول جديد ويقال أيضاً: استهل: بمعنى تبين، ولا يقال أهل، ويقال أهللنا عن ليلة كذا، وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: يقال أهل الهلال واستهل، وأهللنا الهلال واستهللناه، انتهى. وقد تقدّم لنا الكلام في مادة هلل، ولكن أعدنا ذلك بخصوصية لفظ الهلال بالأشياء التي ذكرناها هنا. {مواقيت}: جمع ميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد، وقال بعضهم: الميقات منتهى الوقت، قال تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة} ثقف الشيء: إذا ظفر به ووجده على جهة الأخذ والغلبة، ومنه: رجل ثقف سريع الأخذ لأقرانه، ومنه: فأما تثقفهم في الحرب وقول الشاعر: فأما تثقفوني فاقتلوني *** فمن أثقف فليس إلى خلود وقال ابن عطية: {ثقفتموهم} أحكمتم غلبتهم، يقال: رجل ثقف لقف إذا كان محكماً لما يتناوله من الأمور. انتهى. ويقال: ثقف الشيء ثقافة إذا حذقه، ومنه أخذت الثقافة بالسيف، والثقافة أيضاً حديدة تكون للقوَّاس والرمَّاح يقوم بها المعوج، وثقف الشيء: لزمه، وهو ثقف إذا كان سريع العلم، وثقفته: قوّمته، ومنه الرماح المثقفة، أي: المقومة وقال الشاعر: ذكرتك والخطِّيُّ يخطر بيننا *** وقد نهلت منا المثقَّفَةُ السمرُ يعنى الرماح المقومة. {التهلكة}. على وزن تفعلة، مصدر لهلك، وتفعلة مصدراً قليلٌ، حكى سيبويه منه: التضرة والتسرة، ومثله من الأعيان: التنصبة، والتنفلة، يقال: هلك هلكاً وهلاكاً وتهلكةً وهلكاءً على وزن فعلاء، ومفعل من هلك جاء بالضم والفتح والكسر، وكذلك بالتاء، هو مثلث حركات العين، والضم في مهلك نادر، والهلاك في ذي الروح: الموت، وفي غيره: الفناء والنفاد. وكون التهلكة مصدراً حكاه أبو علي عن أبي عبيدة، وقلة غيره من النحويين قال الزمخشري: ويجوز أن يقال: أصلها التهلكة كالتجربة والتبصرة ونحوهما على أنها مصدر من هلك، يعني المشدّد اللام، فأبدلت من الكسرة ضمة، كما جاء الجوار. انتهى كلامه. وما ذهب إليه ليس بجيد، لأن فيها حملاً على شاذ، ودعوى إبدال لا دليل عليه، أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصل تفعله ذات الضم، على تفعله ذات الكسر، وجعل تهلكة مصدراً لهلك المشدّد اللام، وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل، نحو: كسر تكسيراً، ولا يأتي على تفعله، إلا شاذاً، فالأَوْلى جعل تهلكة مصدراً، إذ قد جاء ذلك نحو: التضرة. وأما تهلكة فالأحسن أيضاً أن يكون مصدراً لهلك المخفف اللام، لأن بمعنى تهلكة بضم اللام، وقد جاء في مصادر فعل: تفعلة قالوا: جل الرجل تجلة، أي جلالاً، فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدراً لهلك المشدّد اللام، وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ، وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعى فيه الإبدال، بل يبني المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذاً. وزعم ثعلب أن التهلكة مصدر لا نظير له، إذ ليس في المصادر غيره، وليس قوله بصحيح، إذ قد حكينا عن سيبويه أنه حكى التضرة والتسرّة مصدرين. وقيل: التهلكة ما أمكن التحرز منه، والهلاك ما لا يمكن التحرز منه، وقيل التهلكة: الشيء المهلك، والهلاك حدوث التلف، وقيل: التهلكة كل ما تصير غايته إلى الهلاك. {أحصرتم} قال يونس بن حبيب: أحصر الرجل رد عن وجه يريده، قيل: حصر وأحصر لمعنى واحد، قاله الشيباني، والزجاج، وقاله ابن عطية عن الفراء، وقال ابن ميادة: وما هجر ليلى أن يكون تباعدت *** عليك ولا أن أحصرتك شغول وقيل: أحصر بالمرض، وحصره العدوّ، قاله يعقوب. وقال الزجاج أيضاً: الرواية عن أهل العلم في العلم الذي يمنعه الخوف والمرض: أحصر، والمحبوس: حصر، وقال أبو عبيدة والفراء أيضاً أحصر فهو محصَر، فإن حبس في سجن أو دار قيل حُصِر فهو: محصور، وقال ثعلب: أصل الحصر والإحصار: الحبس، وحصر في الحبس أقوى من أحصر، وقال ابن فارس في (المجمل): حصر بالمرض، وأحصر بالعدوّ. ويقال: حصره صدره أي: ضاق، ورجل حصر: وهو الذي لا يبوح بسره، قال جرير: ولقد تكنفني الوشاة فصادفوا *** حَصِراً بسرِّك يا تميم ضنينا والحصر: احتباس الغائط، والحصير: الملك، لأنه كالمحبوس بالحجاب. قال لبيد: حتى لدى باب الحصير قيام... والحصير معروف: وهو سقيف من بردى سمى بذلك لانضمام بعضه إلى بعض، كحبس الشيء مع غيره. {الهدي} الهدي ما يهدى إلى بيت الله تعالى تقرباً إليه، بمنزلة الهدية يهديها الإنسان إلى غيره. يقال: أهديت إلى البيت الحرام هدياً وهديّاً بالتشديد، والتخفيف، فالتشديد جمع هديَّة، كمطية ومطيّ، والتخفيف جمع هديَة كجذية السرج، وجذي. قال الفراء: لا واحد للهدي، وقيل: التشديد لغة تميم، ومنه قول زهير: فلم أر معشراً أسروا هديّاً *** ولم أر جار بيت يستباء وقيل: الهديّ، بالتشديد فعيل بمعنى مفعول، وقيل: الهدي بالتخفيف مصدر في الأصل، وهو بمعنى الهدي كالرهن ونحوه، فيقع للأفراد والجمع. وفي اللغة ما أهدي من دراهم أو متاع أو نِعم أو غير ذلك يسمى هدياً، لكن الحقيقة الشرعية خصت الهدي بالنعم. وقد وقع الخلاف فيما يسمى من النعم هدياً على ما سيأتي ذكره إن شاء الله. الحلق: مصدر حلق يحلق إذا أزال الشعر بموسى أو غيره من محدّد ونورة، والحلق مجرى الطعام بعد الفم. الأذى: مصدر، وهو بمعنى الألم، تقول: آذاني زيد إيذاءً آلمني. الصدقة: ما أعطي من مال بلا عوض تقرباً إلى الله تعالى. النسك: قال ابن الأعرابي: النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، ثم قيل للمتعبد: ناسك لأنه خلص نفسه من دنس الآثام وصفاها، كالنسيكة المخلصة من الدنس، ثم قيل للذبيحة: نسك، لأنها من أشرف العبادات التي تتقرب بها إلى الله تعالى، وقيل: النسك مصدر نسك ينسك نَسكاً ونُسكاً، كما تقول حلم الرجل، حُلماً وحِلماً. الأمن: زوال ما يحذر، يقال: أمن يأمن أمناً وأمنة. الثلاثة: عدد معروف، ويقال منه: ثلثت القوم أثلثهم، أي صيرتهم ثلاثة بي. والثلاثون عدد معروف، والثلث بضم اللام وتسكينها أحد أجزاء المنقسم إلى ثلاثة، وثلث ممنوعاً من الصرف، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله. العقاب: مصدر عاقب أي جازى المسيء على إساءته، وهو مشتق من العاقبة، كأنه يراد عاقبة فعله المسيء. {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال، وما فائدة محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع، وغيرهم. وروي أن من سأل هو معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنم الأنصاري، قالا: يا رسول الله. ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلئ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ لا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت. ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وهو أن ما قبلها من الآيات نزلت في الصيام، وأن صيام رمضان مقرون برؤية الهلال، وكذلك الإفطار في شهر شوال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وكان أيضاً قد تقدّم كلام في شيء من أعمال الحج، وهو: الطواف، والحج أحد الأركان التي بني الإسلام عليها. وكان قد مضى الكلام في توحيد الله تعالى، وفي الصلاة، والزكاة، والصيام، فأتى بالكلام على الركن الخامس وهو: الحج، ليكون قد كملت الأركان التي بني الإسلام عليها. وروي عن ابن عباس أنه قال: ما كان أمة أقل سؤالاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا منها في سورة البقرة أولها {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} والثاني: هذا، وستة بعدها، وفي غيرها: {يسألونك ماذا أحل لهم} {يسألونك عن الأنفال} {ويسألونك عن الروح} {ويسألونك عن ذي القرنين} {ويسألونك عن الجبال} {ويسألونك عن الساعة} قيل: اثنان من هذه الأسئلة في الأول في شرح في شرح المبدأ، واثنان في الآخر في شرح المعاد، ونظيره أنه افتتحت سورتان ب {يا أيها الناس} الأولى وهي الرابعة من السور في النصف الأول، تشتمل على شرح المبدأ، والثانية وهي الرابعة أيضاً من السور في النصف الآخر تشتمل على شرح المعاد. والضمير في يسألونك ضمير جمع على أن السائلين جماعة، وإن كان من سأل اثنين، كما روي، فيحتمل أن يكون من نسبة الشيء إلى جمع وإن كان ما صدر إلاَّ من واحد منهم أو اثنين، وهذا كثير في كلامهم، قيل: أو لكون الإثنين جمعاً على سبيل الاتساع والمجاز. والكاف: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، و: يسألونك، خبر، فإن كانت الآية نزلت قبل السؤال كان ذلك من الاخبار بالمغيب: وإن كانت نزلت بعد السؤال، وهو المنقول في أسباب النزول، فيكون ذلك حكاية عن حال مضت. و: عن، متعلقة بقوله: يسألونك، يقال: سأل به وعنه، بمعنى واحد، ولا يراد بذلك السؤال عن ذات الأهلة، بل عن حكمة اختلاف أحوالها، وفائدة ذلك، ولذلك أجاب بقوله: {قل هي مواقيت للناس} فلو كانت على حالة واحدة ما حصل التوقيت بها. والهلال هو مفرد وجمع باختلاف أزمانه، قالوا: من حيث كونه هلالاً في شهر، غير كونه هلالاً في آخر. وقرأ الجمهور: عن الأهلة، بكسر النون وإسكان لام الأهلة بعدها همزة، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة وحذف الهمزة، وقرأ شاذاً بادغام نون: عن في لام الأهلة بعد النقل والحذف. {قل هي} أي: الأهلة {مواقيت للناس} هذه: الحكمة في زيادة القمر ونقصانه إذ هي كونها مواقيت في الآجال، والمعاملات، والإيمان، والعدد، والصوم، والفطر، ومدة الحمل والرضاع، والنذور المعلقة بالأوقات، وفضائل الصوم في الأيام التي لا تعرف إلاَّ بالأهلة. وقد ذكر تعالى هذا المعنى في قوله: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وفي قوله: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب} وقال الراغب: الوقت الزمان المفروض للعمل، ومعنى: مواقيت للناس أي ما يتعلق بهم من أمور معاملاتهم ومصالحهم. انتهى. وقال الرماني: الوقت مقدار من الزمان محدّد في ذاته، والتوقيت تقدير حدّه، وكلما قدّرت له غاية فهو موقت، والميقات منتهى الوقت، والآخرة منتهى الخلق، والإهلال ميقات الشهر، ومواضع الإحرام مواقيت الحج، لأنها مقادير ينتهي إليها، والميقات مقدار جعل علماً لما يقدّر من العمل. انتهى كلامه. وفي تغيير الهلال بالنقص والنماء ردّ على الفلاسفة في قولهم: إن الاحرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها، فأظهر تعالى الاختلاف في القمر ولم يظهره في الشمس ليعلم أن ذلك بقدرة منه تعالى. والحج: معطوف على قوله: للناس، قالوا: التقدير ومواقيت للحج، فحذف الثاني اكتفاءً بالأوّل، والمعنى: لتعرفوا بها أشهر الحج ومواقيته. ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة، أفرد بالذكر، وكأنه تخصيص بعد تعمم، إذ قوله: مواقيت للناس، ليس المعنى مواقيت لذوات الناس، وإنما المعنى: مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت ديناً ودنيا. فجاء قوله: والحج، بعد ذلك تخصيصاً بعد تعميم. ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس، بل على المضاف المحذوف الذي ناب الناس منابه في الإعراب. ولما كانت تلك المقاصد يفضي تعدادها إلى الإطناب، اقتصر على قوله: مواقيت للناس. وقال القفال: إفراد الحج بالذكر لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرض الحج، وأنه لا يجوز نقل الحج عن تلك الأشهر لأشهر أخر، إنما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء. انتهى كلامه. وقرأ الجمهور: والحج، بفتح الحاء. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: والحِج بكسرها في جميع القرآن في قوله: {حِج البيت} فقيل بالفتح المصدر وبالكسر الاسم. وقال سيبويه: الحَج، كالردّ والسدّ، والحِج، كالذِكر، فهما مصدران. والظاهر من قوله: مواقيت للناس والحِج، ما ذهب إليه أبو حنيفة، ومالك من جواز الإحرام بالحج في جميع السنة لعموم الأهلة، خلافاً لمن قال: لا يصح إلاَّ في أشهر الحج. قيل: وفيها دليل على أن من وجب عليها عدتان من رجل واحد اكتفت بمضي عدة واحدة للعدتين، ولا تستأنف لكل واحدة منهما حيضاً، ولا شهوراً، لعموم قوله: مواقيت للناس. ودليل على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال، وكانت بالشهور، وجب استيفاؤها بالأهلة لا بعدد الأيام، ودليل على أن من آلى من امرأته من أول الشهر إلى أن مضى الأربعة الأشهر معتبر في اتباع الطلاق بالأهلة دون اعتبار الثلاثين، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين آلى من نسائه شهراً، وكذلك الإجارات، والأيمان، والديون، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك، وسقط اعتبار العدد، وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الصوم، وفيها ردّ على أهل الظاهر. ومن قال بقولهم: إن المساقات تجوز على الأجل المجهول سنين غير معلومة، ودليل على من أجاز البيع إلى الحصاد أو الدراس أو للغطاس وشبهه وهو: مالك، وأبو ثور، وأحمد؛ وكذلك إلى قدوم الغزاة وروي عن ابن عباس منعه، وبه قال الشافعي، ودليل على عدم اعتبار وصف الهلال بالكبر أو الصغر لأنه يقال: ما فصل، فسواء رئي كبيراً أو صغيراً، فإنه لليلة التي رئي فيها. {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى}. قال البراء بن عازب، والزهري، وقتادة، سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعاً أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدران، وقيل: كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة لم يأت حائطاً، ولا بيتاً، ولا داراً من بابه، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقباً بدخل منه ويخرج، أو ينصب سلماً، يصعد منه، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يدخل ولا يخرج من الباب حتى يحل إحرامه، ويرون ذلك براً إلاَّ أن يكون ذلك من الحمس، وهم: قريش، وكنانة، وخزاعة، وثقيف، وخثعم، وبنو عامر بن صعصعة، وبنو نصر بن معاوية. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل منهم، فوقف ذلك الرجل وقال: إني أحمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وأنا أحمس». فنزلت. ذكر هذا مختصراً السدي. وروى الربيع " أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل وخلفه رجل من الأنصار، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «لم دخلت وأنت قد أحرمت»؟ قال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إني أحمس، إني من قوم لا يدينون بذلك». فقال الرجل: وأنا ديني دينك " فنزلت. وقال إبراهيم: كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز، وقيل: كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة، ويبقى كذلك حولاً كاملاً. وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية راداً على من جعل إتيان البيوت من ظهورها براً، آمراً بإتيان البيوت من أبوابها، وهذه أسباب تضافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة، وأن الإتيان هو المجيء إليها، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تضافرت من هذه الآسباب. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر، فبين لهم أن ذلك ليس من البر، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه، في الحج، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة، وما حكمة ذلك، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم، فأفعاله جارية على الحكمة، ردّ عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها، إذا أحرموا، ليس من الحكمة في شيء، ولا من البر، ولما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معاً، ووصل إحداهما بالأخرى. وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال. أحدهما: أن ذلك ضرب، مثل: المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال، ولكن اتقوا واسألوا العلماء. فهذا كما يقال: أتيت الأمر من بابه، قاله أبو عبيدة. الثاني: أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً لمخالفة الواجب في الحج، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء، فانهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام، فضرب مثلاً للمخالفة، وقيل: واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم. قاله أبو مسلم. الثالث: أن أتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح، وإتيانها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلاَّ الصواب، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول. أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم، فالمعنى: أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر، صرتم شاكين في حكمة الخالق، فقد أتيتم ما تظنونه براً، إنما البرّ أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم، وهو حكمة الخالق على المجهول، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة، وإن كنتم لا تعلمون، قاله في (ريّ الظمآن) وهو قول ملفق من كلام الزمخشري. قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون هذا تمثيلاً لتعكيسهم في سؤالهم، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره، والمعنى: ليس البرّ، وما ينبغي أن يكونوا عليه، بأن تعكسوا في مسائلكم، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه، ولم يجسر على مثله. ثم قال: {وأتوا البيوت من أبوابها} أي: وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن يباشر عليها، ولا تعكسوا، والمراد وجوب توطيء النفوس وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة، ولا اعتراض شك في ذلك، حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الاتهام بمفارقة الشك {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} انتهى كلامه. وحكى هذا القول مختصراً ابن عطية، فقال: وقال غير أبي عبيدة: ليس البرّ أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع، أنه كنى بالبيوت عن النساء، الإيواء اليهنّ كالإيواء إلى البيوت، ومعناه: لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهنّ، وآتوهنّ من حيث يحل من قَبُلهنّ. قاله ابن زيد، وحكاه مكي، والمهدوي عن ابن الأنباري. وقال ابن عطية: كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام، انتهى. والباء في: بان تأتوا زائدة في خبر ليس، وبأن تأتوا، خبر ليس، ويتقدّر بمصدر، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى، وبالأعرف عما دونه في التعريف، لأن: أن وصلتها، عندهم بمنزلة الضمير. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وقالون، وعباس، عن أبي عمرو؛ والعجلي عن حمزة؛ والشموني عن الأعشى، عن أبي بكر: البيوتِ، بالكسر حيث وقع ذلك لمناسبة الياء، والأصل هو الضم لأنه على وزن فعول، وبه قرأ باقي السبعة و: مِنْ، متعلقة: بتأتوا، وهي لابتداء الغاية، والضمير في: أبوابها، عائد على البيوت. وعاد كضمير المؤنث الواحدة، لأن البيوت جمع كثرة، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير، والأفصح في كثيره أن يفرد. كهو في ضمير المؤنث الواحدة، ويجوز العكس. وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره، والأفصح أن يجمع الضمير. ولذلك جاء في القرآن: {هنّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهنّ} ونحوه، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح. {ولكنّ البرّ من اتقى} التأويلات التي في قوله: {ولكنّ البرّ من آمن} سائغة هنا، من أنه أطلق البر، وهو المصدر، على من وقع منه على سبيل المبالغة، أو فيه حذف من الأوّل، أي: ذا البرّ، ومن الثاني أي: بر من آمن. وتقدّم الترجيح في ذلك. وهذه الآية كأنها مختصرة من تلك لأن هناك عدّ أوصافاً كثيرة من الإيمان بالله إلى سائر تلك الأوصاف، وقال في آخرها: {أولئك هم المتقون} وقال هنا: {ولكنّ البرّ من اتقى} والتقوى لا تحصل إلاَّ بحصول تلك الأوصاف، فأحال هنا على تلك الأوصاف ضمناً إذ جاء معها: هو المتقي. وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيف: ولكنّ، ورفع: البرّ، والباقون بالتشديد والنصب. {وأتوا البيوت من أبوابها} تفسيرها: يتفرّغ على الأقوال التي تقدّمت في قوله: {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها}. {واتقوا الله}: أمر باتقاء الله، وتقدمت جملتان خبريتان وهما {وليس البرّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البرّ من اتقى} فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأولى، والثانية راجعة للثانية، وهذا من بديع الكلام. ولما كان ظاهر قوله: من اتقى، محذوف المفعول، نص في قوله: واتقوا الله، على من يتقي، فاتضح في الأول أن المعنى من اتقى الله. {لعلكم تفلحون} ظاهره التعلق بالجملة الأخيرة، وهي قوله {واتقوا الله} لأن تقوى الله هو إجماع الخير من امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، فعلق التقوى برجاء الفلاح، وهو الظفر بالبغية. {وقاتلوا في سبيل الله} الآية. قال ابن عباس: نزلت لما صدّ المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيحلوا له مكة ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش، ويصدوهم، ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت. وأطلق لهم قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم وفي الشهر الحرام، ورفع عنهم الجناح في ذلك، وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها، لأن ما قبلها متضمن شيئاً من متعلقات الحج، ويظهر أيضاً أن المناسب هو: أنه لما أمر تعالى بالتقوى، وكان أشدّ أقسام التقوى وأشقها على النفس قتال أعداء الله، فأمر به فقال تعالى: {وقاتلوا في سبيل الله} والظاهر أن المقاتلة في سبيل الله هي الجهاد في الكفار لإظهار دين الله وإعلاء كلمته، وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال، أمر فيها بقتال من قاتل، والكف عن من كف، فهي ناسخة لآيات الموادعة. وروي عن أبي بكر أن أول آية نزلت في القتال {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} قال الراغب: أمر أولاً بالرفق والاقتصار على الوعظ والمجادلة الحسنة، ثم أذن له في القتال، ثم أمر بقتال من يأبى الحق بالحرب، وذلك كان أمراً بعد أمر على حسب مقتضى السياسة. انتهى. وقيل: إن هذه الآية منسوخة بالأمر بقتال المشركين، وقيل: هي محكمة، وفي (ريّ الظمآن) هي منسوخة بقوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنه} وضعف نسخها بقوله: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} لانه من باب التخصيص لا من باب النسخ، ونسخ: {ولا تقاتلوهم} بقوله: {وقاتلوهم} بأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكم لم ينسخ، بل هو باق، وبأنه يبعد أن يجمع بين آيات متوالية يكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى، وأبعد من ذهب إلى أن قوله: وقاتلوا، ليس أمراً بقتال، وإنما أراد بالمقاتلة المخاصمة والمجادلة والتشدّد في الدين، وجعل ذلك قتالاً، لأنه يؤول إلى القتال غالباً، تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. والآية على هذا محكمة. هذا القول خلاف الظاهر، والعدول عن الظاهر لغير مانع لا يناسب: في سبيل الله، السبيل هو الطريق، واستعير لدين الله وشرائعه، فإن المتبع ذلك يصل به إلى بغيته الدينية والدنيوية، فشبه بالطريق الموصل الإنسان إلى ما يقصده، وهذا من استعارة الإجرام للمعاني، ويتعلق: في سبيل الله، بقوله: وقاتلوا، وهو ظرف مجازي، لأنه لما وقع القتال بسببب نصرة الدين صار كأنه وقع فيه، وهو على حذف مضاف، التقدير: في نصرة دين الله، ويحتمل أن يكون من باب التضمين كأنه قيل: وبالغوا بالقتال في نصرة سبيل الله، فضمن: قاتلوا، معنى المبالغة في القتال. {الذين يقاتلونكم} ظاهره: من يناجزكم القتال ابتداءً، أو دفعاً عن الحق، وقيل: من له أهلية القتال سوى من جنح للسلم فيخرج من هذا: النسوان، والصبيان، والرهبان. وقيل: من له قدرة على القتال، وتسمية من له الأهلية والقدرة مقاتلاً مجاز، وأبعد منه مجازاً من ذهب إلى أن المعنى: الذين يخالفونكم، فجعل المخالفة قتالاً، لأنه يؤول إلى القتال، فيكون أمراً بقتال من خالف، سواء قاتل أم لم يقاتل، وقدّم المجرور على المفعول الصريح لأنه الأهم، وهو أن يكون القتال بسبب إظهار شريعة الإسلام، ألا ترى الاقتصار عليه في نحو قوله: {وقاتلول في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم} {ولا تعتدوا} نهي عام في جميع مجاوزة كل حدّ، حدّه الله تعالى، فدخل فيه الاعتداء في القتال بما لا يجوز، وقيل: المعنى: ولا تعتدوا في قتل النساء، والصبيان، والرهبان، والأطفال، ومن يجري مجراهم. قاله ابن عباس، وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد. ورجحه جماعة من المفسرين: كالنحاس وغيره، لأن المفاعلة غالباً لا تكون إلاَّ من اثنين، والقتال لا يكون من هؤلاء. ولأن النهي ورد في ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، والصبيان، وعن المثلة، وفي وصاية أبي بكر ليزيد بن أبي سفيان النهي عن قتل هؤلاء، والشيخ الفاني، وعن تخريب العامر، وذبح البقرة والشاة لغير مأكل، وإفساد شجرة مثمرة بحرق أو غيره. وقيل: ولا تعتدوا في قتال من بذل الجزية. قاله ابن بحر، وقيل: في ترك القتال، وقيل: بالبداءة والمفاجأة قبل بلوغ الدعوة. وقيل: بالمثلة، وقيل: بابتدائهم في الحرم في الشهر الحرام، وقيل: في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر. {إن الله لا يحب المعتدين}. هذا كالتعليل لما قبله كقوله: أكرم زيداً إن عمراً يكرمه. وحقيقة المحبة: وهي ميل النفس إلى ما تؤثره مستحيلة في حق الله تعالى، ولا واسطة بين المحبة والبغضاء بالنسبة إلى الله تعالى، لأنهما مجازان عن إرادة ثوابه، وإرادة عقابه، أو عن متعلق الإرادة من الثواب والعقاب. وذلك بخلاف محبة الانسان وبغضه، فإن بينهما واسطة، وهي عدمهما، فلذلك لا يرد على نفي محبة الله تعالى أن يقال: لا يلزم من نفي المحبة وجود البغض، بل ذلك لازم لما بيناه من عدم الواسطة بينهما في حقه تعالى. {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} ضمير المفعول عائد على: الذين يقاتلونكم، وهذا أمر بقتلهم، و: حيث ثقفتموهم، عام في كل مكان حل أو حرم، ويلزم منه عموم الأزمان، في شهر الحرام وفي غيره، وفي (المنتخب) أمر في الآية: الأولى بالجهاد بشرط إقدام الكفار على المقاتلة، وفي هذه الآية زاد في التكليف. فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام. انتهى. وليس كما قال: إنه زاد في التكليف فأمر بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا، لأن الضمير عائد على: الذين يقاتلونكم، فالوصف باقٍ إذْ المعنى: واقتلوا الذين يقاتلونكم حيث ثقفتموهم، فليس أمراً بالجهاد سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا. قال ابن إسحاق: نزلت هذه الآية في شأن عمرو بن الحضرمي حين قتله وافد بن عبد الله التميمي، وذلك في سرية عبد الله بن جحش. {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي: من المكان الذي أخرجوكم منه، يعني مكة، وهو أمر بالإخراج أمر تمكين، فكأنه وعد من الله بفتح مكة، وقد أنجز ما وعد، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بمن لم يسلم معهم، و: مِنْ حيثُ، متعلق بقوله: وأخرجوهم، وقد تصرف في: حيث، بدخول حرف الجر عليها: كمن، والباء، وفي، وبإضافة لدى إليها. وضمير النصب في: أخرجوكم، عائد على المأمورين بالقتل، والإخراج، وهو في الحقيقة عائد على بعضهم، جعل إخراج بعضهم، وهو أجلهم قدراً رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرون، إخراجاً لكلهم. {والفتنة أشدّ من القتل} في الفتنة هنا أقوال. أحدها: الرجوع إلى الكفر أشدّ من أن يقتل المؤمن، قاله مجاهد. وكانوا قد عذبوا نفراً من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر، فعصمهم الله. والكفر بالله يقتضي العذاب دائماً، والقتل ليس كذلك، وكان بعض الصحابة قتل في الشهر الحرام، فاستعظم المسلمون ذلك. الثاني: الشرك، أيّ: شركهم بالله أشدّ حرماً من القتل الذي عيروكم به في شأن ابن الحضرمي. الثالث: هتك حرمات الله منهم أشدّ من القتل الذي أبيح لكم أيها المؤمنون أن توقعوه بهم. الرابع: عذاب الآخرة لهم أشدّ من قتلهم المسلمين في الحرم ومنه: {ذوقوا فتنتكم} {إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات} أي: عذبوهم. الخامس: الإخراج من الوطن لما فيه من مفارقة المألوف والأحباب، وتنغيص العيش دائماً، ومنه قول الشاعر: لموت بحدّ السيف أهون موقعاً *** على النفس من قتلٍ بحدِّ فراقِ السادس: أن يراد فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام، أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم، أو من قتلهم إياكم، إن قتلوكم، فلا تبالوا بقتالهم، قاله الزمخشري، وهو راجع لمعنى القول الثالث. السابع: تعذيبهم المسلمين ليرتدوا، قاله الكسائي. وأصل الفتنة عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش، ثم صار يستعمل في الامتحان، وإطلاقه على ما فسر به في هذه الاقوال شائع، والفتنة والقتل مصدران لم يذكر فاعلهما، ولا مفعولهما، وإنما أقرَّ أن ماهية الفتنة أشدّ من ماهية القتل، فكل مكان تتحقق فيه هذه النسبة كان داخلاً في عموم هذه الأخبار سوآء كان المصدر فاعله أو مفعوله: المؤمنون أم الكافرون، وتعيين نوع مّا من أفراد العموم يحتاج إلى دليل. {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} هو أن يبدأهم بالقتال في هذا الموطن حتى يقع ذلك منهم فيه، قال مجاهد: وهذه الآية محكمة لا يجوز قتال أحد في المسجد الحرام إلاَّ بعد أن يقاتل. وبه قال طاووس، وأبو حنيفة؛ وقال الربيع: منسوخة بقوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} وقال قتادة بقوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين} والنسخ قول الجمهور، وقد تقدم طرف من الكلام في هذا النسخ، في هذه الآية. وقرأ حمزة، والكسائي والأعمش: ولا تقتلوهم، وكذلك حتى يقتلوكم فإن قتلوكم، من القتل، فيحتمل المجاز في الفعل، أي: ولا تأخذوا في قتلهم حتى يأخذوا في قتلكم، ويحتمل المجاز في المفعول، أي: ولا تقتلوا بعضهم حتى يقتلوا بعضكم، فإن قتلوا بعضكم، يقال: قتلنا بنو فلان، يريد قتل بعضنا وقال: فإن تقتلونا نقتلكم *** وان تقصدوا الذم نقصد ونظيره: قتل {معه ربيون كثير} فأوهنوا أي: قتل معهم أناس من الربيين، فاوهن الباقون، والعامل في عند: ولا تقاتلوهم، و: حتى، هنا للغاية، وفيه متعلق بيقاتلوكم، والضمير عائد على عند، تعدى الفعل إلى ضمير الظرف فاحتيج في الوصول إليه إلى: في، هذا، ولم يتسع فتعدى الفعل إلى ضمير الظرف تعديته للمفعول به الصريح، لا يقال: إن الظرف إذا كان غير متصرف لا يجوز أن يتعدى الفعل إلى ضميره بالاتساع، لان ظاهره لا يجوز فيه ذلك، بل الاتساع جائز إذ ذاك. ألا ترى أنه يخالفه في جره بغي وإن كان الظاهر لا يجوز فيه ذلك؟ فكذلك يخالفه في الاتساع. فحكم الضمير إذ ذاك ليس كحكم الظاهر. {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} هذا تصريح بمفهوم الغاية، وفيه محذوف. أي: فإن قاتلوكم فيه فاقتلوهم فيه، ودل على إرادته سياق الكلام. ولم يختلف في قوله: فاقتلوهم، أنه أمر بقتلهم على ذلك التقدير، وفيه بشارة عظيمة بالغلبة عليهم، أي: هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم لا بقتالهم، فأنتم متمكنون منهم بحيث لا يحتاجون إلاّ إلى إيقاع القتل بهم، إذا ناشبوكم القتال لا إلى قتالهم. {كذلك جزاء الكافرين} الكاف في موضع رفع لأنها خبر عن المبتدأ الذي هو خبر الكافرين. المعنى: جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء، وهو القتل، أي: من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل. {فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} أي: عن الكفر، ودخلوا في الاسلام، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة وهما لا يكونان مع الكفر {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار، وقيل: فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك، لتقدمهما في الكلام، وهو حسن، وقيل: عن القتال دون الكفر، وليس الغفران لهم على هذا القول، بل المعنى: فإن الله غفور لكم رحيم بكم حيث اسقط عنكم تكليف قتالهم، وقيل: الجواب محذوف، أي: فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم، وعلى قول: إن الانتهاء عن القتال فقط، تكون الآية منسوخة، وعلى القولين قبله تكون محكمة، ومعنى: انتهى: كف، وهو افتعل من النهي، ومعناه فعل الفاعل بنفسه، وهو نحو قولهم: اضطرب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها: افتعل. قالوا: وفي قوله: {فإن انتهوا فان الله غفور رحيم} دلالة على قبول توبة قاتل العمد، إذ كان الكفر أعظم مأثماً من القتل، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر. {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} ضمير المفعول عائد على من قاتله وهم كفار مكة، والفتنة هنا الشرك وما تابعه من أذى المسلمين، أُمروا بقتالهم حتى لا يعبد غير الله، ولا يُسَنُّ بهم سنة أهل الكتاب في قبول الجزية، قاله ابن عباس، وقتادة، والربيع، والسدي. أعني: أن الفتنة هنا والشرك وما تابعه من الأذى، وقيل: الضمير لجميع الكفار أمروا بقتالهم وقتلهم في كل مكان، فالآية عامة تتناول كل كافر من مشرك وغيره، ويخص منهم بالجزية من دل الدليل عليه، وقد تقدّم قول من قال: إنها ناسخة، لقوله: ولا تقاتلوهم. قال في (المنتخب): والصحيح أنه ليس كذلك، بل هذه الصيغة عامة وما قبله خاص، وهو: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} ومذهب الشافعي تخصيص العام سواء تقدّم على المخصص أم تأخر عنه. وقال أو مسلم: الفتنة هنا: القتال في الحرم، قال: أمرهم الله بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون من أنواع المضار. و: حتى، هنا للغاية، أو للتعليل، وإذا فسرت الفتنة بالكفر، والكفر لا يلزم زواله بالقتال، فكيف غي الأمر بالقتال بزواله؟. والجواب: أن ذلك على حكم الغالب، والواقع، وذلك أن من قتل فلقد انقطع كفره وزال، ومن عاش خاف من الثبات على كفره، فأسلم، أو يكون المعنى: وقاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر، لأن الواجب في قتال الكفار أن يكون القصد زوال الكفر، ولذلك إذا ظن أنه يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه. {ويكون الدين لله} الدين هنا: الطاعة، أي: يكون الانقياد خالصاً لله، وقيل: الدين هنا السجود والخضوع لله وحده، فلا يسجد لغيره، وغي هنا الأمر بالقتال بشيئين: أحدهما: انتفاء الفتنة، والثاني: ثبوت الدين لله، وهو عطف مثبت على منفي، وهما في معنى واحدة ومتلازمان، لأنه إذا انتفى الشرك بالله كان تعالى هو المعبود المطاع، وعلى تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غي بأمرين مختلفين: أحدهما: انتفاء القتال في الحرم، والثاني: خلوص الدين لله تعالى. قيل وجاء في الأنفال: {ويكون الدين كله الله} ولم يجئ هنا: كله، لأن آية الأنفال في الكفار عموماً، وهنا في مشركي مكة، فناسب هناك التعميم، ولم يحتج هنا إليه. قيل: وهذا لا يتوجه إلاَّ على قول من جعل الضمير في: وقاتلوهم، عائداً على أهل مكة على أحد القولين، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلاً عليه بقوله: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} فعارضه بقوله: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً} فقال: ألم يقل: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة}؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كان الإسلام قليلاً، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله. {فان انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}. متعلق الانتهاء محذوف، التقدير: عن الشرك بالدخول في الاسلام، أو عن القتال. وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم، أو: عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم، وذلك على الاختلاف في الضمير، إذ هو عام في الكفار، أو خاص بكفار مكة. والعدوان مصدر عدا، بمعنى: اعتدى، وهو نفي عام، أي: لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلاَّ على من ظلم، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء. سماه عدواناً من حيث هو جزاء عدوان، والعقوبة تسمى باسم الذنب، وذلك على المقابلة، كقوله: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل} {ومكروا ومكر الله} وقال الشاعر: جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم *** قصاصاً سواء حذوك النعل بالنعل وقال الرماني، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى، كأنه يقول: انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلاَّ على الظالمين إنتهى كلامه. وهذا النفي العام يراد به النهي، أي: فلا تعتدوا، وذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام، وصار ألزم في المنع، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلاً، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلاً لوجود العدوان على غير الظالم. فكأنه يكون إخباراً غير مطابق، وهو لا يجوز على الله تعالى. وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال، وقيل: من بقي على كفر وفتنة، قال عكرمة، وقتادة: الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلاَّ الله. وقال الأخفش المعنى: فإن انتهى بعضهم فلا عدوان إلاَّ على من لم ينته، وهو الظالم. قال الزمخشري: فلا تعتدوا على المنتهين لأن مقاتلة المنتهين عدوان وظلم، فوضع قوله: إلاَّ على الظالمين، موضع: على المنتهين إنتهى كلامه. وهذا الذي قاله لا يصح إلاَّ على تفسير المعنى، وأما على تفسير الإعراب فلا يصح، لأن: على المنتهين، ليس مرادفاً لقوله: إلاَّ على الظالمين، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلاَّ بالمفهوم مفهوم الصفة. وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور بالنفي، وإلاَّ وفرق بين الدلالتين، ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الإعراب. ألا ترى قوله: فوضع قوله: إلاَّ على الظالمين، موضع: على المنتهين؟ وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الإعراب، وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل وما أكرم إلاَّ العالم؟ وإلاَّ على الظالمين، استثناء مفرغ من الاخبار على الظالمين في موضع رفع على أنه خبر لا، على مذهب الأخفش، أو على أنه خبر للمبتدأ الذي هو مجموع، لا عدوان، على مذهب سيبويه. وقد تقدّم التنبيه على ذلك، وجاء: بعلى، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه. وقيل: معنى لا عدوان، لا سبيل، كقوله: {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ} أي لا سبيل عليّ، وهو مجاز عن التسليط والتعرض، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان. ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي: إلاَّ على الظالمين منهم، أو بالاندراج في عموم الظالمين، فكان الربط بالعموم. {الشهر الحرام بالشهر الحرم والحرمات قصاص} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقسم، والسدي، والربيع، والضحاك، وغيرهم: نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية، وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام، وهو ذو القعدة، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهتهم القتال، وذلك في ذي القعدة: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي: هتكه بهتكه، تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم. وقال الحسن: سأل الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تقاتل في الشهر الحرام؟ فأخبرهم أنه لا يقاتل فيه، فهموا بالهجوم عليه وقتل من معه حين طمعوا أنه لا يقاتل، فنزلت. والشهرُ، مبتدأ وخبره الجار والمجرور وبعده، ولا يصح من حيث اللفظ أن يكون خبراً، فلا بد من حذف التقدير: انتهاك حرمة الشهر الحرام، كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام؛ والألف واللام في الشهر، في اللفظ هي للعهد، فالشهر الأول هو ذو القعدة من سنة سبع في عمرة القضاء، والشهر الثاني هو من سنة ست عام الحديبية {والحرمات قصاص} والالف واللام للعهد في الحرمات، أي: حرمة الشهر وحرمة المحرمين حين صددتم بحرمة البلد، والشهر، والقطان، حين دخلتم. وهذا التفسير على السبب المنقول عن ابن عباس ومن معه، وأما على السبب المنقول عن الحسن فتكون الألف واللام للعموم في النفس والمال والعرض، أي: وكل حرمة يجري فيها القصاص، فيدخل في ذلك تلك الحرمات السابقة وغيرها، وقيل: {والحرمات قصاص} جملة مقطوعة مما قبلها ليست في أمر الحج والعمرة، بل هو ابتداء أمر كان في أول الإسلام، أي: من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك به، ثم نسخ ذلك بالقتال. وقالت طائفة: ما كان من تعدٍّ في مال أو جرح لم ينسخ، وله أن يتعدى عليه من ذلك بمثل ما تعدى عليه، ويخفي ذلك إذا أمكنه دون الحاكم ولا يأثم بذلك، وبه قال الشافعي، وهي رواية في مذهب مالك. وقالت طائفة، منهم مالك: القصاص وقف على الحكام فلا يستوفيه إلاَّ هم. وقرأ الحسن {والحرمات} باسكان الراء على الأصل، إذ هو جمع حرمة، والضم في الجمع اتباع. {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} هذا مؤكد لما قبله من قوله {والحرمات قصاص} وقد اختلف فيها: أهي منسوخة أم لا؟ على ما تقدم من مذهب الشافعي ومذهب مالك. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة، والاسلام لم يعز، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه، أُمرالمسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم، وأُمروا بقتال الكفار. وقال مجاهد: بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء، وهو من التدريج في الأمر بالقتال. وقوله: {فاعتدوا} ليس أمراً على التحتم إذ يجوز العفو، وسمي ذلك اعتداءً على سبيل المقابلة، والباء في: بمثل، متعلقة بقوله: فاعتدوا عليه، والمعنى: بعقوبة مثل جناية اعتدائه، وقيل: الباء زائدة، أي: مثل اعتدائه، وهو نعت لمصدر محذوف، أي: اعتداءً مماثلاً لاعتدائه. {واتقوا الله} أمر بتقوى الله فيدخل فيه اتقاؤه بأن لا يتعدّى الإنسان في القصاص من إلى ما لا يحل له. {واعلموا أن الله مع المتقين} بالنصرة والتمكين والتأييد، وجاء بلفظ: مع، الدالة على الصحبة والملازمة حضاً على الناس بالتقوى دائماً إذ من كان الله معه فهو الغالب المنتصر، أَلا ترى إلى ما جاء في الحديث «أرموا وأنا مع بني فلان»؛ فأمسكوا، فقال: «إرموا وأنا معكم كلكم؛» أو: كلاماً هذا معناه، وكذلك قوله لحسان: «اهجم وروح القدس معك»؛ {وأنفقوا في سبيل الله} هذا أمر بالإنفاق في طريق الإسلام، فكل ما كان سبيلاً لله وشرعاً له كان مأموراً بالانفاق فيه؛ وقيل: معناه الأمر بالانفاق في أثمان آلة الحرب، وقيل: على المقلين من المجاهدين، قاله ابن عباس، قال: نزلت في أناس من الأعراب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: بماذا نتجهز؟ فوالله ما لنا زاد وقيل: في الجهاد على نفسه وعلى غيره، وقيل: المعنى: إبذلوا أنفسكم في المجاهدة في سبيل الله. وسمي بذل النفس في سبيل الله إنفاقاً مجازاً واتساعاً كقول الشاعر: وأنفقت عمري في البطالة والصبا *** فلم يبق لي عمر ولم يبق لي أجر والأظهر القول الأول، وهو: الأمر بصرف المال في وجوه البرّ من حج، أو عمرة، أو جهاد بالنفس، أو بتجهيز غيره، أو صلة رحم، أو صدقة، أو على عيال، أو في زكاة، أو كفارة، أو عمارة سبيل، أو غير ذلك. ولما اعتقبت هذه الآية لما قبلها مما يدل على القتال والأمر به، تبادر إلى الذهن النفقة في الجهاد للمناسبة. {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال عكرمة: نزلت في الأنصار، أمسكوا عن النفقة في سبيل الله، وقال النعمان بن بشير: كان الرجل يذنب الذنب فيقول: لا يغفر الله لي، فنزلت. وفي حديث طويل تضمن أن رجلاً من المسلمين حمل على صف الروم، ودخل فيهم وخرج، فقال الناس: ألقى بنفسه إلى التهلكة، فقال أبو أيوب الانصاري: تأوّلتم الآية على غير تأويلها، وما أنزلت هذه الآية إلاَّ فينا معشر الأنصار، لما أعز الله دينه قلنا: لو أقمنا نصلح ما ضاع من أموالنا، فنزلت. وفي تفسير التهلكة أقوال. أحدها: ترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال، قاله أبو أيوب. الثاني: ترك النفقة في سبيل الله خوف العيلة، قاله حذيفة، وإبن عباس، والحسن، وعطاء، وعكرمة، وابن جبير. الثالث: التقحم في العدّو بلا نكاية، قاله أبو القاسم البلخي. الرابع: التصدّق بالخبيث، قاله عكرمة. الخامس: الإسراف بإنفاق كل المال، قال تعالى {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا} {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط} قاله أبو علي. السادس: الانهماك في المعاصي ليأسه من قبول توبته، قاله البراء، وعبيدة السلماني. السابع: القنوط من التوبة، قاله قوم. الثامن: السفر للجهاد بغير زاد، قاله زيد بن أسلم، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم إلى الإنقطاع في الطريق، أو إلى كونهم عالة على الناس. التاسع: إحباط الثواب إمّا بالمنّ أو الرياء والسمعة، كقوله: {ولا تبطلوا أعمالكم} وهذه الأقوال كلها تحتمل هذه الآية. والظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤول بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى، فإن الجهاد في سبيل الله مفض إلى الهلاك، وهو القتل، ولم ينه عنه، بل هو أمر مطلوب موعود عليه بالجنة، وهو من أفضل الأعمال المتقرب بها إلى الله تعالى، وقد ردّ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: أن يقتل في سبيل الله ثم يحيى، فيقاتل فيقتل، أو كما جاء في الحديث؛ ويقال: ألقى بيده في كذا، أو إلى كذا، إذا استسلم، لأن المستسلم في القتال يلقي سلاحه بيديه، وكذا على كل عاجز في أي فعل كان، ومنه قول عبد المطلب: والله إن القاءنا بأيدينا للموت لعجز. وألقى يتعدى بنفسه، كما قال تعالى: {فألقى مويى عصاه} وقال الشاعر: حتى إذا ألقت يداً في كافر *** وأجنّ عورات الثغور ظلامُها وجاء مستعملاً بالباء لهذه الآية، وكقول الشاعر: وألقى بكفيه الفتى إستكانة *** من الجوع وهناً ما يمرّ وما يحلى وإذا كان ألقى على هذين الاستعمالين، فقال أبو عبيدة وقوم: الباء زائدة، التقدير: ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة، ويكون عبّر باليد عن النفس، كأنه قيل: ولا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة. وقد زيدت الباء في المفعول كقوله. سود المحاجر لا يقرأن بالسور *** أي: لا يقرأن السور، إلاَّ أن زيادة الباء في المفعول لا ينقاس، وقيل: مفعول ألقى محذوف، التقدير: ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة، وتتعلق الباء بتلقوا، أو تكون الباء للسبب، كما تقول: لا تفسد حالك برأيك. والذي تختاره في هذا أن المفعول في المعنى هو: بأيديكم، لكنه ضمن: ألقى، معنى ما يتعدى بالباء، فعداه بها، كأنه قيل: ولا تفضوا بأيديكم إلى التهلكة. كقوله: أفضيت بجنبي إلى الأرض أي: طرحت جنبي على الأرض، ويكون إذ ذاك قد عبّر عن الأنفس بالأيدي، لأن بها الحركة والبطش والامتناع، فكأنه يقول: إن الشيء الذي من شأنه أن يمتنع به من الهلاك، ولا يهمل ما وضع له، ويفضي به إلى الهلاك وتقدّمت معاني: أفعل، في أول البقرة، وهي أربعة وعشرون معنى، وعرضتها على لفظ: ألقى، فوجدت أقرب ما يقال فيه: أن: أفعل، للجعل على ما استقرأه التصريفيون تنقسم إلى ثلاثة أقسام. القسم الأول: أن تجعله كقولك: أخرجته، أي: جعلته يخرج، فتكون الهمزة في هذا النوع للتعدية. القسم الثاني: أن تجعله على صفة، كقوله: أطردته، فالهمزة فيه ليست للتعدية، لأن الفعل كان متعدّياً دونها، وإنما المعنى: جعلته طريداً. والقسم الثالث: أن تجعله صاحب شيء بوجه مّا، فمن ذلك: أشفيت فلاناً، جعلت له دواء يستشفى به، وأسقيته: جعلته ذا ماء يسقى به ما يحتاج إلى السقي. ومن هذا النوع: أقبرته، وأنعلته، وأركبته، وأخدمته، وأعبدته: جعلت له قبراً، ونعلاً، ومركوباً، وخادماً، وعبداً. فأما: ألقى، فإنها من القسم الثاني، فمعنى: ألقيت الشيء: جعلته لقى، واللقى فعل بمعنى مفعول، كمان أن الطريد فعيل بمعنى مفعول، فكأنه قيل: لا تجعلوا أنفسكم لقى إلى التهلكة فتهلك. وقد حام الزمخشري نحو هذا المعنى الذي أيدناه فلم ينهض بتخليصه، فقال: الباء في: بأيديكم، مثلها في أعطى بيده للمنقاد، والمعنى: ولا تقبضوا التهلكة أيديكم، أي: لا تجعلوها آخذة بأيديكم، مالكة لكم، انتهى كلامه. وفي كلامه أن الباء مزيدة، وقد ذكرنا أن ذلك لا ينقاس. {وأحسنوا} هذا أمر بالإحسان، والأولى حمله على طلب الإحسان من غير تقييد بمفعول معين. وقال عكرمة: المعنى: وأحسنوا الظنّ بالله، وقال زيد بن أسلم: وأحسنوا بالإنفاق في سبيل الله، وفي الصدقات. وقيل: وأحسنوا في أعمالكم بامتثال الطاعات، قال ذلك بعض الصحابة قيل وأحسنوا، معناه: جاهدوا في سبيل الله، والمجاهد محسن. {إن الله يحب المحسنين} هذا تحريض على الإحسان لأن فيه إعلاماً بأن الله يحب من الإحسان صفة له، ومن أحبه الله لهذا الوصف فينبغي أن يقوم وصف الإحسان به دائماً بحيث لا يخلو منه محبة الله دائماً. {وأتموا الحج والعمرة لله} الإتمام كما تقدّم ضد النقص، والمعنى: إفعلوهما كاملين ولا تأتوا بهما ناقصين شيئاً من شروطهما، وأفعالهما التي تتوقف وجود ماهيتهما عليهما، كما قال غيلان: تمام الحج أن تقف المطايا *** على خرقاء واضعة اللثام جعل: وقوف المطايا على محبوبته، وهي: مي، كبعض مناسك الحج الذي لا يتم إلاَّ به. هذا ظاهر اللفظ، وقد فسر: الإتمام، بغير ما يقتضيه الظاهر. قال الشعبي، وابن زيد: إتمامهما أن لا ينفسخ، وأن تتمهما إذا بدأت بهما. وقال علي، وابن مسعود، وابن عباس، وسعيد، وطاووس: إتمامهما أن تحرم بهما مفردين من دويرة أهلك، وفعله عمران بن حصين. وقال الثوري: إتمامهما أن تخرج قاصداً لهما لا لتجارة ولا لغير ذلك، ويؤيد هذا قوله: لله. وقال القاسم بن محمد وقتادة: إتمامهما أن تحرم بالعمرة وتقضيها في غير أشهر الحج، وأن تتم الحج دون نقص ولا جبر بدم، وقالت فرقة: إتمامهما أن تفرد كل واحد من حج أو عمرة ولا تقرن، والإفراد عند هؤلاء أفضل. وقال قوم: إتمامهما: أن تقرن بينهما، والقران عند هؤلاء أفضل. وقال ابن عباس، وعلقمة، وإبراهيم، وغيرهم: إتمامها أن تقضي مناسكهما كاملة بما كان فيها من دماء، وهذا يقرب من القول الأول، وقال قوم: أن يفرد لكل واحد منهما سفراً. وقيل: أن تكون النفقة حلالاً وقال مقاتل: إتمامهما أن لا تستحلٍ فيهما ما لا يجوز، وكانوا يشركون في إحرامهم، يقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلاَّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. فقال: أتموهما ولا تخلطوا بهما شيئاً. وقال الماتريدي: إنما قال {وأتموا الحج والعمرة لله} لأن الكفرة كانوا يفعلون الحج لله والعمرة للصنم، وقال المروزي: كان الكفار يحجون للأصنام. وقرأ علقمة: وأقيموا الحج وقرأ طلحة بن مصرف: الحج، بالكسر هنا، وفي آل عمران، وبالفتح في سائر القرآن وتقدّم قراءة ابن إسحاق: الحج بالكسر في جميع القرآن، وسيأتي ذكر الخلاف في قوله: {حج البيت} في موضعه. وقرأ ابن مسعود: واتموا الحج والعمرة إلى البيت لله، وقرأ علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وابن عمر والشعبي، وأبو حيوة، والعمرة لله بالرفع على الإبتداء والخبر، فيخرج العمرة عن الأمر، وينفرد به الحج. وروي عنه أيضاً: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وينبغي أن يحمل هذا كله على التفسير، لأنه مخالف لسواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون. و: لله، متعلق بأتموا وهو مفعول من أجله، ويجوز أن يكون في موضع الحال، ويكون العامل محذوفاً تقديره: كائنين لله، ولا خلاف في أن الحج فرض، وأنه أحد الأركان التي بني الإسلام عليها، وفروضه: النية، والإحرام، والطواف المتصل بالسعي بين الصفا والمروة، خلافاً لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة، على قول ابن الماجشون، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي. وأما أعمال العمرة: فنية، وإحرام، وطواف، وسعي. ولا يدل الأمر بإتمام الحج والعمرة على فرضية العمرة، ولا على، أنها سنة، فقد يصح صوم رمضان وشيئاً من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية، وإن اختلفت جهتا الطلب، ولذلك ضعف قول من استدل على أن العمرة فرض بقوله: وأتموا. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وابن عمر، ومسروق، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين، والشعبي، وابن جبير، وأبي بردة، وعبد الله بن شدّاد؛ ومن علماء الأمصار: الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وابن حميم، من المالكيين. وذهب جماعة من الصحابة إلى أن العمرة سنة، منهم: ابن مسعود، وجابر، ومن التابعين: النخعي، ومن علماء الأمصار: مالك، وأبو حنيفة، إلاَّ أنه إذا شرع فيها عندهما وجب إتمامها. وحكى بعض القزوينيين والبغداديين عن أبي حنيفة القولين، والحجج منقولة في كتب الفقه. {فإن أحصرتم} ظاهره ثبوت هذا الحكم للأمة، وأنه يتحلل بالإحصار. وروي عن عائشة وابن عباس: أنه لا يتحلل من إحرامه إلاَّ بأداء نسكه، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره. وليس لمحرم أن يتحلل بالإحصار بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن كان إحرامه بعمرة لم يفت، وإن كان بحج ففاته قضاه بالفوات بعد إحلاله منه وتقدم الكلام في الإحصار. وثبت بنقل من نقل من أهل اللغة: أن الإحصار والحصر سواء، وأنهما يقالان في المنع بالعدوّ، وبالمرض، وبغير ذلك من الموانع، فتحمل الآية على ذلك، ويكون سبب النزول ورد على أحد مطلقات الإحصار. وليس في الآية تقييد، وبهذا قال قتادة، والحسن، وعطاء، والنخعي، ومجاهد، وأبو حنيفة، وقال علقمة، وعروة: الآية نزلت فيمن أحصر بالمرض لا بالعدوّ، وقال ابن عمر، وابن عباس، وابن الزبير، ومالك، والشافعي. لا يكون الإحصار إلاَّ بالعدوّ فقط. قال ابن عباس: والآية نزلت فيمن أحصر بالعدوّ لا بالمرض. وقال مالك، والشافعي: ولو أحصر بمرض فلا يحله إلاَّ البيت، ويقيم حتى يفيق، ولو أقام سنين. وظاهر قوله: {فان أحصرتم} استواء المكي والآفاقي في ذلك، وقال عروة، والزهري، وأبو حنيفة: ليس على أهل مكة إحصار. وظاهر لفظ: أحصرتم، مطلق الإحصار، وسواء علم بقاء العدوّ استيطانه لقوته وكثرته، فيحل المحصر مكانه من ساعته على قول الجمهور، أو رجا زواله، وقيل: لا يباح له التحلل إلاَّ بعد أن يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنه لو زال العدوّ لم يدرك الحج، فيحل حينئذ، وبه قال ابن القاسم، وابن الماجشون. وقيل: من حصر عن الحج بعذر حتى يوم النحر فلا يقطع التلبية حتى يروح الناس إلى عرفة، ومطلق الإحصار يشمل قبل عرفة وبعدها خلافاً لأبي حنيفة، فإن من أحصر بمكة أو بعد الوقوف فلا يكون محصراً؛ وبناء الفعل للمفعول يدل على أن المحصر بمسلم أو كافر سواء. {فما استيسر من الهدي} هو شاة، قاله علي، وابن عباس، وعطاء، وابن جبير، وقتادة، وإبراهيم، والضحاك، ومغيرة. وقد سميت هدياً في قوله: {هدياً بالغ الكعبة} وقال الحسن، وقتادة: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأدناه شاة. وبه قال مالك، وأبو يوسف، وزفر، يكون من الثلاثة، يكون المستيسر على حكم حال المهدي، وعلى حكم الموجود. وروى طاووس عن ابن عباس: أنه على قدر الميسرة، وقال ابن عمر، وعائشة، والقاسم، وعروة: هو جمل دون جمل، وبقرة دون بقرة، ولا يكون الهدي إلاَّ من هذين، ولا يكون الشاة من الهدي، وبه قال أبو حنيفة. قال ابن شبرمة: من الإبل خاصة، وقال الأوزاعي يهدي الذكور من الإبل والبقر. ولو عدم المحصر الهدي فهل له بدل ينتقل إليه؟ قال أبو حنيفة: تكون في ذمته أبداً ولا يحل حتى يجد هدياً فيذبح عنه، وقال أحمد: له بدل، والقولان عن الشافعي، فعلى القول الأول: يقيم على إحرامه أو يتحلل، قولان. وعلى الثاني: يقوم الهدي بالدراهم، ويشترى بها الطعام، والكل أنه لا بدل للهدي، والظاهر أن العمرة كالحج في حكم الإحصار، وبه قال أكثر الفقهاء. وقال ابن سيرين لا إحصار في العمرة لأنها غير مؤقتة. والظاهر أنه لا يشترط سن في الهدي، وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا يجزى إلاَّ الثني فصاعداً، وقال مالك: لا يجزي من الإبل إلاَّ الثني فصاعداً، ويجوز اشتراك سبعة في بقرة أو بدنة، وهو قول أبي حنيفة، والأوزاعي، والشافعي. وقال مالك: يجوز ذلك في التطوع لا في الواجب، والظاهر وجوب {ما استيسر من الهدي} وقال ابن القاسم: لا يهدي شيئاً إلاَّ إن كان معه هدي، والجمهور على أنه يحل حيث أحصر وينجز هديه إن كان ثم هدي، ويحلق رأسه. وقال قتادة، وإبراهيم: يبعث هديه إن أمكنه، فإذا بلغ محله صار حلالاً. وقال أبو حنيفة: إن كان حاجاً فبالحرم متى شاء، وقال أبو يوسف، ومحمد في أيام النحر: وإن كان معتمراً فبالحرم في كل وقت عندهم جميعاً، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه حيث أحصر، وكان طرف الحديبية الربى التي أسفل مكة، وهو من الحرم، وعن الزهري: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم. وقال الواقدي: الحديبية هي طرف الحرم على تسعة أميال من مكة. واختلفوا في الاشتراط في الحج إذا خاف أن يحصر بعدوِّ أو مرض، وصيغة الاشتراط أن يقول إذا أهل: لبيك اللهم لبيك، ومحلي حيث حبستني. فذهب الثوري، وأبو حنيفة، ومالك، وأصحابهم إلى أنه لا ينفعه الاشتراط. وقال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، والشافعي: في القديم لا بأس أن يشترط، وله شروط، فيه حديث خرج في الصحيح: ولا قضاء عليه عند الجميع إلاَّ من كان لم يحج، فعليه حجة الإسلام، وشذ بن الماجشون فقال: ليس عليه حجة الإسلام، وقد قضاها حين أحصر. وما، من قوله: {فما استيسر} موصولة، وهي مبتدأ، والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر، قاله الأخفش، أو: في موضع نصب: فليهدِ قاله أحمد ابن يحيى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب له استيسر، واستيسر هو بمعنى الفعل المجرد، أي: يسر، بمعنى: استغنى وغني، واستصعب وصعب، وهو أحد المعاني التي جاءت لها استفعل. ومن، هنا تبعيضية، وهي في موضع الحال من الضمير المستكن في استيسر العائد على ما، فيتعلق بمحذوف التقدير: كائناً من الهدي، ومن أجاز أن يكون: من، لبيان الجنس، أجاز ذلك هنا. والألف واللام في: الهدي، للعموم. وقرأ مجاهد، والزهري، وابن هرمز، وأبو حيوة: الهدي، بكسر الدال وتشديد الياء في الموضعين، يعني هنا في الجر والرفع، وروي ذلك عصمة عن عاصم. {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} هذا نهي عن حلق الرأس مغيّاً ببلوغ الهدي محله، ومفهومه: إذا بلغ الهدي محله فاحلقوا روؤسكم. والضمير في. تحلقوا، يحتمل أن يعود على المخاطبين بالإتمام، فيشمل المحصر وغيره، ويحتمل أن يعود على المحصرين، وكلا الإحتمالين قال به قوم، وأن يكون خطاباً للمحصرين هو قول الزمخشري، قال: أي: لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي الذي بعثتموه إلى الحرم بلغ محله، أي: مكانه الذي يجب نحره فيه، ومحل الدين وقت وجوب قضائه، وهو على ظاهر مذهب أبي حنيفة. انتهى كلامه. وكأنه رجح كونه للمحصرين، لأنه أقرب مذكور، وظاهر قول ابن عطية أنه يختار أن يكون الخطاب لجميع الأمة محصراً كان المحرم أو مخلىًّ، لأنه قدم هذا القول، ثم حكى القول الآخر، قال: ومن العلماء من يراها للمحصرين خاصة في قوله: {ولا تحلقوا رؤوسكم} مجاز في الفاعل وفي المفعول، أما في الفاعل ففي إسناد الحلق إلى الجميع، وإنما يحلق بعضهم رأس بعض، وهو مجاز شائع كثير، تقول: حلقت: رأسي، والمعنى أن غيره حلقه له: وأما المجاز ففي المفعول، فالتقدير: شعر رؤوسكم، فهو على حذف مضاف، والخطاب يخص الذكور، والحلق للنساء مثله في الحج وغيره، وإنما التقصير سنتهنّ في الحج. وخرّج أبو داود، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس على النساء حلق إنما عليهنّ التقصير» وأجمع أهل العلم على القول به، واختلفوا في مقدار ما يقصر من شعرها على تقادير كثيرة ذكرت في الفقه، ولم تتعرّض هذه الآية للتقصير فنتعرّض نحن له هنا، وإنما استطردنا له من قوله: {ولا تحلقوا}. وظاهر النهي: الحظر والتحريم حتى يبلغ الهدي محله، فلو نسي فحلق قبل النحر، فقال أبو حنيفة، وابن الماجشون: هو كالعامد وقال ابن القاسم: لا شيء عليه. أو تعمد، فقال أبو حنيفة، ومالك: لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز. قالوا: وهو مخالف لظاهر الآية. ودلت الآية على أن من النسك في الحج حلق الرأس، فيدل ذلك على جوازه في غير الحج، خلافاً لمن قال: إن حلق الرأس في غير الحج مثلة، لأنه لو كان مثلة لما جاز، لا في الحج ولا غيره. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق رؤوس بني جعفر بعد أن أتاه خبر قتله بثلاثة أيام، وكان علي يحلق، وقال أبو عمرو بن عبد البر: أجمع العلماء على إباحة الحلق، وظاهر عموم: ولا تحلقوا، أو خصوصه بالمحصرين أن الحلق في حقهم نسك، وهو قول مالك، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومحمد: لا حلق على المحصر والقولان عن الشافعي. {حتى يبلغ الهدي محله} حيث أحصر من حل أو حرم، قاله عمر، والمسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم، أو: المحرم، قاله علي، وابن مسعود، وابن عباس، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وتفسيرهم يدل على أن المحل هنا المكان، ولم يقرأ إلاَّ بكسر الحاء. فيما علمنا، ويجوز الفتح: أعني إذا كان يراد به المكان، وفرق الكسائي هنا، فقال: الكسر هو الإحلال من الإحرام، والفتح هو موضع الحلول من الإحصار، وقد تقدّم طرف من القول في محل الهدي، ولم تتعرّض الآية لما على المحصر في الحج إذا تحلل بالهدي، فعن النسيء عليه حجة، وقال الحسن، وابن سيرين، وإبراهيم، وعلقمة، والقاسم، وابن مسعود فيما روى عنه مجاهد، وابن عباس، فيما روى عنه ابن جبير: عليه حجة وعمرة، فإن جمع بينهما في أشهر الحج فعليه دم وهو متمتع، وإن لم يجمعهما في أشهر الحج فلا دم عليه، فإن كان المحصر بمرض أو عدوّ، محرماً بحج تطوّع، أو بعمرة تطوّع، وحل بالهدي فعليه القضاء عند أبي حنيفة، وقال مالك، والشافعي: لا قضاء على من أحصر بعدوٍّ لا في حج ولا في عمرة. {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه} سبب النزول حديث كعب بن عجرة المشهور، وهو أنه صلى الله عليه وسلم، رآه والقمل يتناثر من رأسه، وقيل: رآه وقد قرح رأسه، ولما تقدّم النهي عن الحلق إلى الغاية التي هي بلوغ الهدي كان ذلك النهي شاملاً، فخص بمن ليس مريضاً ولا به أذى من رأسه، أما هذان فأبيح لهما الحلق، وثم محذوف يصح به الكلام، التقدير: فمن كان منكم مريضاً ففعل ما بينا في المحرم من حلق أو غيره، أو به أذى من رأسه فحلق، وظاهر النهي العموم. وقال بعض أهل العلم: هو مختص بالمحصر، لأن جواز الحلق قبل بلوغ الهدي محله لا يجوز، فربما لحقه مرض أو أذى في رأسه إن صبر، فأذن له في زوال ذلك بشرط الفدية، وأكثر العلماء على أنه على العموم، ويدل عليه قصة ابن عجرة. ومنكم، متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال، لأنه قبل تقدّمه كان صفة: لمريضاً، فلما تقدّم انتصب على الحال. ومِنْ، هنا للتبعيض. وأجاز أبو البقاء أن يكون متعلقاً: بمريضاً، وهو لا يكاد يعقل، و: أو به أذى من رأسه، يجوز أن يكون من باب عطف المفردات، فيكون معطوفاً على قوله: مريضاً، ويرتفع: أذى، على الفاعلية بالمجرور الذي هو به، التقدير: أو كائناً به أذىً من رأسه، ومن باب عطف الجملة على المفرد لكون تلك الجملة في موضع المفرد، فتكون تلك الجملة معطوفة على قوله: مريضاً، وهي في موضع مفرد، لأن المعطوف على المفرد مفرد، في التقدير: إذا كان جملة، ويرتفع، أذى، إذ ذاك على الابتداء به في موضع الخبر، فهو: في موضع رفع، وعلى الإعراب السابق في موضع نصب، وأجازوا أن يكون معطوفاً على إضمار: كان، لدلالة: كان، الأولى، عليها. التقدير: أو كان به أذى من رأسه، فاسم كان على هذا إمّا ضمير يعود على: من؛ وبه أذى، مبتدأ وخبر في موضع خبر كان، وإما: أذى وبه، في موضع خبر كان، وأجاز أبو البقاء أن يكون، أو به أذى من رأسه، معطوفاً على كان، وأذى، رفع بالابتداء، وبه، الخبر متعلق بالاستقرار، والهاء في: به، عائدة على: من، وكان قد قدم أبو البقاء أن: من، شرطية، وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ، لأن المعطوف على جملة الشرط يجب أن يكون جملة فعلية، لأن جملة الشرط يجب أن تكون فعلية، والمعطوف على الشرط شرط، فيجب فيه ما يجب في الشرط، ولا يجوز ما قاله أبو البقاء على تقدير أن تكون: من، موصولة. لأنها إذ ذاك مضمنة معنى إسم الشرط، فلا يجوز أن توصل على المشهور بالجملة الاسمية، والباء في: به، للإلصاق، ويجوز أن تكون ظرفية، ومن رأسه، يجوز أن يكون متعلقاً بما يتعلق به: به، وأن يكون في موضع الصفة ل: أذىً، وعلى التقديرين يكون: مِنْ، لابتداء الغاية. {ففدية منة صيام أو صدقة أو نسك} ارتفاع: فدية، على الابتداء، التقدير: فعليه فدية، أو على الخبر، أي: فالواجب فدية. وذكر بعض المفسرين أنه قرئ بالنصب على إضمار فعل التقدير: فليفد فدية. ومن صيام، في موضع الصفة، وأو، هنا للتخيير، فالفادي مخير في أيّ الثلاثة شاء. وقرأ الحسن، والزهري: أو نسك، بإسكان السين؛ والظاهر إطلاق الصيام والصدقة والنسك، لكن بين تقييد ذلك السنة الثابتة في حديث ابن عجرة من أن: الصيام صيام ثلاثة أيام، والصدقة إطعام ستة مساكين، والنسك شاة. وإلى أن الصيام ثلاثة أيام ذهب عطاء، ومجاهد، وإبراهيم، وعلقمة، والربيع، وغيرهم. وبه قال مالك، والجمهور؛ وروي عن الحسن، وعكرمة، ونافع: عشرة أيام. ومحله زماناً متى اختار، ومكاناً حيث اختار. وأما الإطعام، فذكر بعضهم انعقاد الإجماع على ستة مساكين، وليس كما ذكر، بل قال الحسن، وعكرمة: يطعم عشرة مساكين، واختلف في قدر الطعام، ومحل الإطعام، أما القدر فاضطربت الرواية في حديث عجرة، واختلف الفقهاء فيه، فقال أبو حنيفة: لكل مسكين من التمر صاع، ومن الحنطة نصف صاع. وقال مالك، والشافعي: الطعام في ذلك مدّان مدّان، بالمدّ النبوي، وهو قول أبي ثور، وداود. وروي عن الثوري: نصف صاع من البر، وصاع من التمر، والشعير، والزبيب. وقال أحمد مرة بقول كقول مالك، ومرة قال: مدّين من بر لكل مسكين، ونصف صاع من تمر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: يجزيه أن يغديهم ويعشيهم. وقال مالك، والثوري، ومحمد بن الحسن، والشافعي: لا يجزيه ذلك حتى يعطي لكل مسكين مدّين مدّين، بمدّ النبي صلى الله عليه وسلم. وأما المحل فقال علي، وإبراهيم، وعطاء في بعض ما روي عنه، ومالك وأصحابه إلاَّ ابن الجهم، وأصحاب الرأي: حيث شاء وقال الحسن، وطاووس، ومجاهد، وعطاء أيضاً، والشافعي: الإطعام بمكة، وأما النسك فشاة. قالوا بالإجماع ومن ذبح أفضل منها فهو أفضل، وأما محلها فحيث شاء، قاله علي، وإبراهيم، ومالك، وأصحابه إلاَّ ابن الجهم، فقال: النسك لا يكون إلاَّ بمكة، وبه قال عطاء في بعض ما روي عنه، والحسن، وطاووس، ومجاهد، وأبو حنيفة، والشافعي. وظاهر الفدية أنها لا تكون إلاَّ بعد الحلق، إذ التقدير: فحلق ففدية، وقال الأوزاعي: يجزيه أن يكفر بالفدية قبل الحلق، فيكون المعنى: ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك إن أراد الحلق. وظاهر الشرط أن الفدية لا تتعلق إلاَّ بمن به مرض أو أذى فيحلق، فلو حلق، أو جزّ، أو أزال بنورة شعره من غير ضرورة، أو لبس المخيط، أو تطيب من غير عذر عالماً، فقال أبو حنيفة، والشافعي وأصحابهما، وأبو ثور: لا يخير في غير الضرورة، وعليه دم لا غير وقال مالك: يخير، والعمد والخطأ بضرورة وغيرها سواء عنده. فلو فعله ناسياً، فقال إسحاق، وداود: لا شيء عليه. وقال أبو حنيفة، والثوري، ومالك، والليث: الناسي كالعامد في وجوب ذلك القدر، وعن الشافعي القولان، وأكثر العلماء يوجبون الفدية بلبس المخيط وتغطية الرأس، أو بعضه ولبس الخفين، وتقليم الأظفار، ومس الطيب، وإماطة الأذى، وحلق شعر الجسد، أو مواضع الحجامة، الرجل والمرأة في ذلك سواء، وبعضهم يجعل عليهما دماً في كل شيء من ذلك. وقال داود: لا شيء عليهما في حلق شعر الجسد. {فإذا أمنتم} يعني: من الإحصار، هذا الأمنُ مرتب تفسيره على تفسير الإحصار، فمن فسره هناك بالإحصار بالمرض لا بالعدو، وجعل الأمن هنا من المرض لا من العدو، وهو قول علقمة، وعروة. والمعنى: فإذا برئتم من مرضكم. ومن فسره بالإحصار بالعدو لا بالمرض قال: هنا الأمن من العدو لا من المرض، والمعنى: فإذا أمنتم من خوفكم من العدو. ومن فسر الإحصار بأنه من العدو والمرض ونحوه، فالأمن عنده هنا من جميع ذلك، والأمن سكون يحصل في القلب بعد اضطرابه. وقد جاء في الحديث: «الزكام أمان من الجذام» خرّجه ابن ماجة، وجاء: من سبق العاطس بالحمد، أمن من الشوص واللوص والعلوص. أي: من وجع السنّ، ووجع الأذن، ووجع البطن. والخطاب ظاهره أنه عام في المحصر وغيره، أي: فاذا كنتم في حال أمن وسعة، وهو قول ابن عباس وجماعة، وقال عبد الله بن الزبير، وعلقمة، وإبراهيم: الآية في المحصرين دون المخلَّى سبيلهم. {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} تقدّم الكلام في المتاع في قوله: {ومتاع إلى حين} وفسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين، لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج، وقيل: لتمتعه بكل ما لا يجوز فعله، من وقت حله من العمرة إلى وقت انشاء الحج. واختلف في صورة هذا التمتع الذي في الآية، فقال عبد الله بن الزبير: هو فيمن أحصر حتى فاته الحج ثم قدم مكة فخرج من إحرامه بعمل عمرة، واستمتع بإحلاله ذلك بتلك العمرة إلى السنة المستقبلة ثم يحج ويهدي. وقال ابن جبير، وعلقمة، وإبراهيم، معناه: فإذا آمنتم وقد حللتم من إحرامكم بعد الإحصار، ولم تقضوا عمرة، تخرجون بها من إحرامكم بحجكم، ولكن حللتم حيث أحصرتم بالهدي، وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة، واعتمرتم في أشهر الحج، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي. وقال علي: أي: فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدي. وقال السدي: فمن نسخ حجه بعمرة فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه. وقال ابن عباس، وعطاء، وجماعة: هو الرجل تقدّم معتمراً من أفق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالاً بمكة حتى ينشئ منها الحج من عامة ذلك، فيكون مستمتعاً بالإحلال إلى إحرامه بالحج، فمعنى التمتع: الإهلال بالعمرة، فيقيم حلالاً يفعل ما يفعل الحلال بالحج، ثم يحج بعد إحلاله من العمرة من غير رجوع إلى الميقات. والآية محتملة لهذه الأقوال كلها، ولا خلاف بين العلماء في وقع الحج على ثلاثة انحاء. تمتع، وافراد، وقران. وقد بين ذلك في كتب الفقه. ونهى عمر عن التمتع لعله لا يصح، وقد تأوله قوم على أنه فسخ الحج في العمرة، فأما التمتع بالعمرة إلى الحج فلا. {فما استيسر من الهدي} تقدّم الكلام على هذه الجملة تفسيراً وإعراباً في قوله: {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} فأغنى عن إعادته. والفاء في: فإذا أمنتم، للعطف وفي: فمن تمتع، جواب الشرط، وفي: فما، جواب للشرط الثاني. ويقع الشرط وجوابه جواباً للشرط بالفاء، لا نعلم في ذلك خلافاً لجواب نحو: إن دخلتِ الدار فإن كلمتِ زيداً فأنت طالق. وهدي التمتع نسك عند أبي حنيفة لتوفيق الجمع بين العبادتين في سفره، ويأكل منه، وعند الشافعي: يجرى مجرى الجنايات لترك إحدى السفرتين، ولا يأكل منه، ويذبحه يوم النحر عند أبي حنيفة، ويجوز عند الشافعي ذبحه إذا أحرم بحجته، والظاهر وجوب الذبح عند حصول التمتع عقيبه. وصورة التمتع على من جعل قوله: فإذا أمنتم فمن تمتع، خاصة بالمحصرين، تقدّمت في قول ابن الزبير، وقول ابن جبير ومن معه، وأما على قول من جعلها عامة في المحصر وغيره فالتمتع كيفيات. إحداها: أن يحرم غير المكي بعمرة أولاً في أشهر الحج في سفر واحد في عام، فيقدم مكة. فيفرغ من العمرة ثم يقيم حلالاً إلى أن ينشئ الحج من مكة في عام العمرة قبل أن يرجع إلى بلده، أو قبل خروجه إلى ميقات أهل ناحيته، ويكون الحج والعمرة عن شخص واحد. الثانية: أن يجمع بين الحج والعمرة في الإحرام، وهو المسمى: قراناً، فيقول: لبيك بحجة وعمرة معاً، فإذا قدم مكة طاف بحجه وعمرته وسعى. فروي عن علي وابن مسعود: يطوف طوافين ويسعى سعيين، وبه قال الشعبي وجابر بن زيد، وابن أبي ليلى؛ وروي عن عبد الله بن عمر: طواف واحد وسعي واحد لهما، وبه قال عطاء، والحسن، ومجاهد، وطاووس، ومالك، والشافعي وأصحابهما، وإسحاق، وأبو ثور. وجعل القران من باب التمتع لترك النصب في السفر إلى العمرة مرة، وإلى الحج أخرى، ولجمعهما، ولم يحرم بكل واحد من ميقاته، فهذا وجه من التمتع لا خلاف في جوازه، قيل: وأهل مكة لا يجيزون الجمع بين العمرة والحج إلاَّ بسياق الهدي، وهو عندكم: بدنة لا يجوز دونها. وقال مالك: ما سمعت أن مكياً قرن، فإن فعل لم يكن عليه هدي ولا صيام، وعلى هذا جمهور الفقهاء؛ وقال ابن الماجشون. إذا قرن المكي الحج مع العمرة كان عليه دم القران، وقال عبد الله بن عمر: المكي إذا تمتع أو قرن لم يكن عليه دم قران ولا تمتع. الثالثة: أن يحرم بالحج، فإذا دخل مكة فسخ حجه في عمرة، ثم حل وأقام حلالاً حتى يهل بالحج يوم التروية، وجمهور العلماء على ترك العمل بها. وروي عن ابن عباس، والحسن، والسدي جوازها، وبه قال أحمد. وظاهر الآية يدل على وجوب الهدي للواحد. أو الصوم لمن لم يجد إذا تمتع بالعمرة في أشهر الحج، ثم رجع إلى بلده، ثم حج من عامه. وهو مروي عن سعيد بن المسيب، والحسن. وقد روي عن الحسن أنه لا يكون متمتعاً فلا هدي ولا صوم، وبه قال الجمهور، وظاهر الآية أنه لو اعتمر بعد يوم النحر فليس متمتعاً، وعلى هذا قالوا: الإجماع لأن التمتع مغياً إلى الحج ولم يقع المغيا. وشذ الحسن فقال: هي متعة، والظاهر أنه إذا اعتمر في غير أشهر الحج، ثم أقام إلى أشهر الحج ثم حج من عامه فهو متمتع، وبه قال طاووس، وقال الجمهور: لا يكون متمتعاً. {فمن لم يجد} مفعول: يجد، محذوف لفهم المعنى، التقدير: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، ونفي الوجدان إما لعدمه أو عدم ثمنه. {فصيام ثلاثة أيام}: ارتفع صيام على الإبتداء، أي: فعليه، أو على الخبر، أي: فواجب. وقرئ: فصيامَ، بالنصب أي: فليصم صيام ثلاثة أيام، والمصدر مضاف للثلاثة بعد الاتساع، لأنه لو بقي على الظرفية لم تجز الإضافة. {في الحج} أي: في أشهر الحج فله أن يصومها فيها ما بين الإحرامين، إحرام العمرة، وإحرام الحج، قاله عكرمة، وعطاء، وأبو حنيفة، قال: والأفضل أن يصوم يوم التروية وعرفة ويوماً قبلهما، وإذ مضى هذا الوقت لم يجزه إلاَّ الدم، وقال عطاء أيضاً، ومجاهد: لا يصومها إلاَّ في عشر ذي الحجة، وبه قال الثوري، والأوزاعي. وقال ابن عمر، والحسن، والحكم: يصوم يوماً قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وكل هؤلاء يقولون: لا يجوز تأخيرها عن عشر ذي الحجة، لأنه بانقضائه ينقضي الحج. وقال علي، وابن عمر: لو فاته صومها قبل يوم النحر صامها في أيام التشريق، لأنها من أيام الحج. وعن عائشة، وعروة، وابن عمر في رواية ابنه سالم عنه: أنها أيام التشريق. وقيل: زمانها بعد إحرامه، وقيل: يوم النحر، قاله علي، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، وطاووس، وعطاء، والسدي؛ وبه قال مالك؛ وقال الشافعي، وأحمد: يصومهن ما بين أن يحرم بالحج إلى يوم عرفة، وهو قول ابن عمر، وعائشة. وروي هذا عن مالك، وهو قوله في (الموطأ) ليكون يوم عرفة مفطراً. وعن أحمد: يجوز أن يصوم الثلاثة قبل أن يحرم، وقال قوم: له أن يؤخرها ابتداءً إلى يوم التشريق، لأنه لا يجب عليه الصوم إلاَّ بأن لا يجد الهدي يوم النحر. وقال عروة: يصومها ما دام بمكة، وقاله أيضاً مالك، وجماعة من أهل المدينة، وهذه الأقوال كلها تحتاج إلى دلائل عليها. وظاهر قوله: في الحج، أن يكون المحذوف: زماناً، لأنه المقابل في قوله: {وسبعة إذا رجعتم} إذ معناه في وقت الرجوع، ووقت الحج هو أشهره، فنحر الهدي للمتمتع لم يشرط فيه زمان، بل ينبغي أن يتعقب التمتع لوقوعه جواباً للشرط، فإذا لم يجده فيجب عليه صوم ثلاثة أيام في الحج، أي: في وقته، فمن لحظ مجرد هذا المحذوف أجاز الصيام قبل أن يحرم بالحج، وبعده، وجوز ذلك إلى آخر أيام التشريق، لأنها من وقت الحج؛ ومن قدر محذوفاً آخر، أي: في وقت أفعال الحج، لم يجز الصيام إلاَّ بعد الإحرام بالحج، والقول الأول أظهر لقلة الحذف، ومن لم يلحظ أشهر الحج، وجوز أن يكون ما دام بمكة، فإذا اعتقد أن المحذوف ظرف مكان، أي: فصيام ثلاثة أيام في أماكن الحج. والظاهر: وجوب انتقاله إلى الصوم عند عدم الوجدان للهدي، فلو ابتدأ في الصوم، ثم وجد الهدي مضى في الصوم وهو فرضه، وبه قال الحسن، وقتادة، والشافعي، وأبو ثور، واختاره ابن المنذر. وقال مالك: أحب أن يهدي، فإن صام أجزأه، وقال أبو حنيفة: إن أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل الصوم ووجب عليه الهدي، ولو أيسر بعد تمامها كان له أن يصوم السبعة الأيام، وبه قال الثوري، وابن أبي نجيح، وحماد. {وسبعة إذا رجعتم} قرأ زيد بن علي، وابن أبي عبدة: وسبعة، بالنصب. قال الزمخشري: عطفاً على محل ثلاثة أيام، كأنه قيل: فصيام ثلاثة أيام كقولك: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} انتهى. وخرجه الحوفي، وابن عطية على إضمار فعل، أي: فليصوموا، أو: فصوموا سبعة، وهو التخريج الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، لأنا قد قررنا أن العطف على الموضع لا بد فيه من المحرز، ومجيء: وسبعة بالتاء هو الفصيح إجراء للمحذوف مجرى المنطوق به، كما قيل: وسبعة أيام، فحذف لدلالة ما قبله عليه، وللعلم بأن الصوم إنما هو الأيام، ويجوز في الكلام حذف التاء إذا كان المميز محذوفاً، وعليه جاء: ثم اتبعه بست من شوال، وحكى الكسائي: صمنا من الشهر خمساً، والعامل في: إذا، هو صيام ثلاثة أيام، وبه متعلق في الحج لا يقال ذا عمل فيهما، فقد تعدى العامل إلى ظرفي زمان، لأن ذلك يجوز مع العطف والبدل، وهنا عطف بالواو شيئين على شيئين، كما تقول: أكرمت زيداً يوم الخميس وعمراً يوم الجمعة. وإذا، هنا محض ظرف، ولا شرط فيها، وفي: رجعتم، التفات، وحمل على معنى: من، أما الالتفات. فإن قوله: {فمن تمتع} {فمن لم يجد} اسم غائب، ولذلك استتر في الفعلين ضمير الغائب، فلو جاء على هذا النظم لكان الكلام إذا رفع، وأما الحمل على المعنى فإنه أتى بضمير الجمع، ولو راعى اللفظ لأفرد، ولفظ الرجوع مبهم، وقد جاء تبيينه في السنة. ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عمر، في آخر: وليهد فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله، وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس: وسبعة إذا رجع إلى أهله إلى أمصاركم، وبه قال قتادة، وعطاء، وابن جبير، ومجاهد، والربيع، وقالوا: هذه رخصة من الله تعالى والمعنى إذا رجعتم إلى أوطانكم فلا يجب على أحد صوم السبعة إلا إذا وصل وطنه، إلاّ أن يتشدد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان؛ وقال أحمد، وإسحاق: يجزئه الصوم في الطريق؛ وقال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم: المعنى إذا رجعتم نفرتم وفرغتم من أعمال الحج، وهذا مذهب أبي حنيفة. فمن بقي بمكة صامها، ومن نهض إلى بلده صامها في الطريق؛ قال مالك في (الكتاب): إذا رجع من منىً فلا بأس أن يصوم. {تلك عشرة كاملة} تلك إشارة إلى مجموع الأيام المأمور بصومها قبل، ومعلوم أن ثلاثة وسبعة عشرة، فقال الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد الباذش ما معناه: أتى بعشرة توطئة للخبر بعدها، لا أنها هي الخبر المستقبل به فائدة الإسناد، فجيء بها للتوكيد، كما تقول: زيد رجل صالح. وقال ابن عرفة: مذهب العرب إذا ذكروا عددين أن يجملوهما. وحسّن هذا القول الزمخشري بأن قال: فائدة الفذلكة في كل حساب أن يعلم العدد جملة، كما علم تفصيلاً ليحاط به من جهتين، فيتأكد العلم، وفي أمثال العرب: علمان خير من علم؛ قال ابن عرفة: وإنما تفعل ذلك العرب لقلة معرفتهم بالحساب، وقد جاء: لا يحسب ولا يكتب، وورد ذلك في كثير من أشعارهم؛ قال النابغة: توهمت آيات لها فعرفتها *** لست أعوامٍ وذا العام سابع وقال الأعشى: ثلاث بالغداة فهي حسبي *** وست حين يدركني العشاءُ فذلك تسعة في اليوم ربي *** وشرب المرء فوق الري داءُ وقال الفرزدق: ثلاث واثنتان وهن خمس *** وسادسة تميل إلى شمام وقال آخر: فسرت إليهم عشرين شهرا *** وأربعة فذلك حجتان وقال المفضل: لما فصل بينهما بإفطار قيدها بالعشرة ليعلم أنها كالمتصلة في الأجر، وقال الزجاج: جمع العددين لجواز أن يظن أن عليه ثلاثة أو سبعة، لأن الواو قد تقوم مقام: أو، ومنه {مثنى وثلاث ورباع} فأزال احتمال التخيير، وهو الذي لم يذكر ابن عطية إلا إياه، وهو قول جار على مذهب أهل الكوفة لا على مذهب البصريين، لأن الواو لا تكون بمعنى: أو. وقال الزمخشري: الواو، قد تجيء للإباحة في نحو قولك: جالس الحسن، وابن سيرين. ألا ترى أنه لو جالسهما جميعاً، أو واحداً منهما كان ممتثلاً؟ ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة. انتهى كلامه. وفيه نظر، لأن لا تتوهم الإباحة هنا، لأن السياق إنما هو سياق إيجاب، وهو ينافي الإباحة ولا ينافي التخيير، لأن التخيير قد يكون في الواجبات. وقد ذكر النحويون الفرق بين التخيير والإباحة، وقيل: هو تقديم وتأخير تقديره: فتلك عشرة: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم، وعزي هذا القول إلى أبي العباس المبرد، ولا يصح مثل هذا القول عنه، وننزه القرآن عن مثله، وقيل: ذكر العشرة لئلا يتوهم أن السبعة مع الثلاثة كقوله تعالى: {وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام} أي مع اليومين اللذين بعدها في قوله: {خلق الأرض في يومين} وقيل: ذكر العشرة لزوال توهم أن السبعة لا يراد بها العدد، بل الكثرة، روى أبو عمرو بن العلاء، وابن الأعرابي عن العرب: سبع الله لك الأجر، أي: أكثر، أرادوا التضعيف وهذا جاء في الأخبار، فله سبع، وله سبعون، وله سبعمائة، وقال الأزهري في قوله تعالى: {سبعين مرة} هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة، ونقل أيضاً عن المبرد أنه قال: تلك عشرة، لأنه يجوز أن يظنّ السامع أن ثم شيئاً آخر بعد السبع، فأزال الظنّ. وقيل: أتى بعشرة لإزالة الإبهام المتولد من تصحيف الخط، لاشتباه سبعة وتسعة، وقيل: أتى بعشر لئلا يتوهم أن الكمال مختص بالثلاثة المضمومة في الحج، أو بالسبعة التي يصومها إذا رجع، والعشرة هي الموصوفة بالكمال، والأحسن من هذه الأقاويل القول الأول. قال الحسن: كاملة في الثواب في سدّها مسدّ الهدي في المعنى لذي جعلت بدلاً عنه، وقيل: كاملة في الغرض والترتيب، ولو صامها على غير هذا الترتيب لم تكن كاملة، وقيل: كاملة في الثواب لمن لم يتمتع. وقيل: كاملة، توكيد كما تقول: كتبته بيدي، {فخرّ عليهم السقف من فوقهم} قال الزمخشري: وفيه، يعني: في التأكيد زيادة توصية بصيامها، وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها، كما تقول للرجل: إذا كان لك اهتمام بأمر تأمره به، وكان منك بمنزلة: الله الله لا تقصر، وقيل: الصيغة خبر ومعناها الأمر، أي: اكملوا صومها، فذلك فرضها. وعدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً خلافاً لظاهر دخول المكلف به في الوجود، فعبر عنه بالخبر الذي وقع واستقر. وبهذه الفوائد التي ذكرناها ردّ على الملحدين في طعنهم بأن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة، فهو إيضاح للواضحات، وبأن وصف العشرة بالكمال يوهم وجود عشرة ناقصة، وذلك محال. والكمال وصف نسبيّ لا يختص بالعددية. كما زعموا لعنهم الله: وكم من عائب قولاً صحيحا *** وآفته من الفهم السقيم {ذلك لمن لم يجد أهله حاضري المسجد الحرام} تقدّم ذكر التمتع، وذكر ما يلزمه، وهو: الهدي، وذكر بدله: وهو الصوم، واختلفوا في المشار إليه بذلك، فقيل: المتمتع وما يلزمه، وهو مذهب أبي حنيفة، فلا متعة، ولا قران لحاضري المسجد الحرام، ومن تمتع منهم أو قرن كان عليه دم جناية لا يأكل منه، والقارن والمتمع من أهل الأفاق دمهما دم نسك يأكلان منه، وقيل: ما يلزم المتمتع وهو: الهدي، وهو مذهب الشافعي لا يوجب على حاضري المسجد الحرام شيئاً، وإنما الهدي، وبدله على الأفقي. وقد تقدّم الخلاف في المكي هل يجوز له المتعة في أشهر الحج أم لا، والأظهر في سياق الكلام أن الإشارة إلى جواز التمتع وما يترتب عليه، لأن المناسب في الترخص: اللام، والمناسب في الواجبات على. وإذا جاء ذلك: لمن، ولم يجئ: على من، وزعم بعضهم أن: اللام، هنا بمعنى: على، كقوله: {أولئك لهم اللعنة} وحاضروا المسجد الحرام. قال ابن عباس، ومجاهد: أهل الحرم كله، وقال مكحول، وعطاء: من كان دون المواقيت من كل جهة، وقال الزهري: من كان على يوم أو يومين، وقال عطاء بن أبي رباح: أهل مكة، وضجنان، وذي طوى، وما أشبهها. وقال قوم أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال قوم: أهل الحرم، ومن كان من أهل الحرم على مسافة تقصر فيها الصلاة، وهو مذهب الشافعي. وقال قوم: أهل مكة، وأهل ذي طوى، وهو مذهب مالك. وقال بعض العلماء: من كان بحيث تجب عليه الجمعة بمكة فهو حضري، ومن كان أبعد من ذلك فهو بدوي، فجعل اللفظة من الحضارة والبداوة. والظاهر أن حاضري المسجد الحرام سكان مكة فقط، لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام، وسائر الأقوال لا بد فيها من ارتكاب مجاز، فيه بعد، وبعضه أبعد من بعض، وذكر حضور الأهل والمراد حضوره وهو، لأن الغالب أن يسكن حيث أهله ساكنون. {واتقوا الله} لما تقدم: أمر، ونهي، وواجب، ناسب أن يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حدّه الله تعالى، ثم أكد الأمر بتحصيل التقوى بقوله: {واعلموا أن الله شديد العقاب}، لأن من علم شدة العقاب على المخالفة كان حريصاً على تحصيل التقوى، إذ بها يأمن من العقاب، وشديد العقاب من باب إضافة الصفة للموصوف للشبهة، والإضافة والنصب أبلغ من الرفع، لأن فيها إسناد الصفة للموصوف، ثم ذكر، من هي له حقيقة، والرفع إنما فيه إسنادها لمن هي له حقيقة فقط دون إسناد للموصوف. وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أنهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حال الأهلة، وفائدتها في تنقلها من الصغر إلى الكبر، وكان من الإخبار بالمغيب، فوقع السؤال عن ذلك، وأجيبوا بأن حكمة ذلك كونها جعلت مواقيت لمصالح العباد ومعاملاتهم ودياناتهم، ومن أعظم فائدتها كونها مواقيت للحج، ثم ذكر شيئاً مما كان يفعله من أحرم بالحج، وكانوا يرون ذلك براً، فرد عليهم فيه، وأمروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها، وأخبروا أن البر هو في تقوى الله، ثم أمروا بالتقوى راجين للفلاح عند حصولها، ثم أمروا بالقتال في نصرة الدين من قاتلهم، ونهوا عن الاعتداء، وأخبر أن الله تعالى لا يحب من اعتدى، ثم أمروا بقتل من ظفروا به، وبإخراج من أخرجهم من المكان الذي أخرجوه منه، ثم أخبر أن الفتنة في الدين أو بالإخراج من الوطن، أو بالتعذيب أشد من القتل، لأن في القتل راحة من هذا كله، ثم لما تضمن الأمر بالإخراج أن يخرجوا من المكان الذي أخرجوا منه، وكان ذلك من جملته المسجد الحرام نهوا عن مقاتلتهم فيه إلاَّ إن قاتلوكم، وذلك لحرمة المسجد الحرام جاهلية واسلاماً، ثم أمر تعالى بقتلهم إذا ناشبوا القتال، وكان فيه بشارة بأنا نقتلهم، إذ أمرنا بقتلهم لا بقتالهم، ولا يقتل الإنسان إلاَّ من كان متمكناً من قتله، ثم ذكر أن من كفر بالله فمثل هذا الجزاء جزاؤه من مقاتلته وإخراجه من وطنه وقتله، ثم أخبر تعالى أنه غفور رحيم لمن انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام، فإن الإسلام يجبُّ ما قبله، ولما كان الأمر بالقتال، فيما سبق، مقيداً مرة بمن قاتل، ومرة بمكان حتى يبدأ بالقتال فيه، أمرهم بالقتال على كل حال من قاتل ومن لم يقاتل، وعند المسجد الحرام وغيره، فنسخ هذا الأمر تلك القيود، وصار مغياً أو معللاً بانتفاء الفتنة وخلوص الدين لله، وختم هذا الأمر بأن من انتهى ودخل في الإسلام فلا اعتداء عليه، وإنما الاعتداء على الظالمين، وهم الكافرون، كما ختم الأمر السابق بأن من انتهى عن الكفر ودخل في الإسلام غفر الله له ورحمه، ثم أخبر تعالى أن هتك حرمة الشهر الحرام بسبب القتال فيه، وهو شهر ذي القعدة، وكانوا يكرهون القتال فيه حين خرجوا لعمرة القضاء جائز لكم بسبب هتكهم حرمته فيه حين قاتلوكم فيه عام الحديبية، وصدوكم عن البيت، ثم أكد ذلك بقوله: {والحرمات قصاص} فاقتضى أن كل من هتك أي حرمة اقتص منه بأن تهتك له حرمة، فكما هتكوا حرمة شهركم لا تبالوا بهتك حرمته لهم، ثم أمر بالمجازاة لمن اعتدى علينا بعقوبة مثل عقوبته، تأكيد لما سبق، وأمر بالتقوى، فلا يوقع في المجازاة غير ما سوَّغه له، ثم قال إنه تعالى مع من اتقى، ومن كان الله معه فهو المنصور على عدوه، ثم أمر تعالى بإنفاق المال في سبيله ونصرة دينه، وأن لا يخلد إلى الدعة والرغبة في إصلاح هذه الدنيا والإخلاد إليها، ونهانا عن الالتباس بالدعة والهوينا فنضعف عن أعدائنا، ويقوون هم علينا، فيؤول أمرنا معهم لضعفنا وقوتهم إلى هلاكنا، وفي هذا الأمر وهذا النهي من الحض على الجهاد ما لا يخفى، ثم أمرهم تعالى بالإحسان، وأنه تعالى يحب من أحسن، ثم أمر تعالى بإتمام الحج والعمرة بأن يأتوا بهما تأمين كاملين بمناسكهما وشرائطهما، وأن يكون فعل ذلك لوجه الله تعالى لا يشوب فعلها رياء ولا سمعة، وكانوا في الجاهلية قد يحجون لبعض أصنامهم، فأمروا بإخلاص العمل في ذلك لله تعالى. ثم ذكر أن من أحصر وحبس عن إتمام الحج أو العمرة فيجب عليه ما يسر من الهدي، والهدي يشمل: البعير، والبقرة، والشاة، ثم نهى عن حلق الرأس حتى يبلغ الهدي محله، والذي جرت العادة به في الهدي أنه محله هو الحرم، فخوطبوا بما كان سابقاً لهم علمه به، ولما غيا الحلق بوقوع هذه الغاية من بلوغ الهدي محله، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض أو أذى برأسه من قمل أو قرح أو غير ذلك، فأوجب تعالى عليه بسبب ذلك فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انبهم من هذا الإطلاق في هذه الثلاثة في حديث كعب بن عجرة على ما مر تفسيره، واقتضى هذا التركيب التخيير بين هذه الثلاثة، ثم ذكر تعالى أنهم إذا كانوا آمنين، وتمتع أحدهم بالعمرة إلى وقت الإحرام بالحج فإنه يلزمه ما استيسر من الهدي، وقد فسرنا ما استيسر من الهدي، وأنه إذا لم يجد ذلك بتعذر ثمن الهدي، أو فقدان الهدي، فيلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج، أي: في زمن وقوع الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله ووطنه. ثم أخبر أن هذه الأيام، وإن اختلف زمان صيامها، فمنها ما يصومه وهو ملتبس بهذه الطاعة الشريفة، ومنها ما يصومه غير ملتبس بها، لكن الجميع كامل في الثواب والأجر، إذ هو ممثل ما أمر الله تعالى به، فلا فرق في الثواب بين ما أمر بإيقاعه في الحج، وما أمر بإيقاعه في غير الحج. ثم ذكر أن هذا التمتع، ولازمه من الهدي أو الصوم، هو مشروع لغير المكي، ثم لما تقدّم منه تعالى في هذه الآيات أوامر ونواهي، كرر الأمر بالتقوى، وأعلم أنه تعالى شديد العقاب لمن خالف ما شرع تعالى. وجاءت هذه الآية شديدة الالتئام، مستحكمة النظام، منسوقاً بعضها على بعض، ولا كنسق اللآلئ مشرقة الدلالة ولا كإشراق الشمس في برجها العالي. سامية في الفصاحة إلى أعالي الذرى، معجزة أن يأتى بمثلها أحد من الورى.
|